الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 4331 ) مسألة قال أبو القاسم : ( ومن أحيا أرضا لم تملك ، فهي له ) وجملته أن الموات قسمان أحدهما ما لم يجر عليه ملك لأحد ، ولم يوجد فيه أثر عمارة ، فهذا يملك بالإحياء ، بغير خلاف بين القائلين بالإحياء . والأخبار التي رويناها متناولة له .

                                                                                                                                            القسم الثاني ، ما جرى عليه ملك مالك ، وهو ثلاثة أنواع : أحدها ما له مالك معين ، وهو ضربان أحدهما ، ما ملك بشراء أو عطية ، فهذا لا يملك بالإحياء ، بغير خلاف . قال ابن عبد البر : أجمع العلماء على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه .

                                                                                                                                            الثاني ما ملك بالإحياء ، ثم ترك حتى دثر وعاد مواتا ، فهو كالذي قبله سواء . وقال مالك : يملك هذا لعموم قوله : { من أحيا أرضا ميتة فهي له } . ولأن أصل هذه الأرض مباح ، فإذا تركت حتى تصير مواتا عادت إلى الإباحة ، كمن أخذ ماء من نهر ثم رده فيه . ولنا أن هذه أرض يعرف مالكها ، فلم تملك بالإحياء ، كالتي ملكت بشراء أو عطية ، والخبر مقيد بغير المملوك ، بقوله في الرواية الأخرى : " من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد " . وقوله : " في غير حق مسلم "

                                                                                                                                            وهذا يوجب تقييد مطلق حديثه . وقال هشام بن عروة ، في تفسير قوله عليه السلام : { وليس لعرق ظالم حق } : العرق الظالم أن يأتي الرجل الأرض الميتة لغيره ، فيغرس فيها . ذكره سعيد بن منصور ، في " سننه " . ثم الحديث مخصوص بما ملك بشراء أو عطية ، فنقيس عليه محل النزاع . ولأن سائر الأموال لا يزول الملك عنها بالترك ، بدليل سائر الأملاك إذا تركت حتى تشعثت . وما ذكروه يبطل بالموات إذا أحياه إنسان ثم باعه ، فتركه المشتري حتى عاد مواتا ، وباللقطة إذا ملكها ثم ضاعت منه ، ويخالف ماء النهر ، فإنه استهلك .

                                                                                                                                            النوع الثاني ما يوجد فيه آثار ملك قديم جاهلي ، كآثار الروم ، ومساكن ثمود ، ونحوها ، فهذا يملك بالإحياء

                                                                                                                                            [ ص: 329 ] لأن ذلك الملك لا حرمة له . وقد روي عن طاوس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { عادي الأرض لله ولرسوله ، ثم هو بعد لكم } . رواه سعيد بن منصور ، في " سننه " ، وأبو عبيد ، في " الأموال " . وقال : عادي الأرض : التي كان بها ساكن في آباد الدهر ، فانقرضوا ، فلم يبق منهم أنيس ، وإنما نسبها إلى عاد لأنهم كانوا مع تقدمهم ذوي قوة وبطش وآثار كثيرة ، فنسب كل أثر قديم إليهم . ويحتمل أن كل ما فيه أثر الملك ، ولم يعلم زواله قبل الإسلام ، أنه لا يملك ; لأنه يحتمل أن المسلمين أخذوه عامرا ، فاستحقوه ، فصار موقوفا بوقف عمر له ، فلم يملك ، كما لو علم مالكه .

                                                                                                                                            النوع الثالث ، ما جرى عليه الملك في الإسلام لمسلم ، أو ذمي غير معين ، فظاهر كلام الخرقي أنها لا تملك بالإحياء . وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، نقلها عنه أبو داود ، وأبو الحارث ، ويوسف بن موسى ; لما روى كثير بن عبد الله بن عوف ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { : من أحيا أرضا مواتا ، في غير حق مسلم ، فهي له } . فقيده بكونه في غير حق مسلم . ولأن هذه الأرض لها مالك ، فلم يجز إحياؤها ، كما لو كان معينا ، فإن مالكها إن كان له ورثة فهي لهم ، وإن لم يكن له ورثة ، ورثها المسلمون . والرواية الثانية ، أنها تملك بالإحياء .

                                                                                                                                            نقلها صالح وغيره . وهو مذهب أبي حنيفة ، ومالك ; لعموم الأخبار ، ولأنها أرض موات ، لا حق فيها لقوم بأعيانهم ، أشبهت ما لم يجر عليه ملك مالك ، ولأنها إن كانت في دار الإسلام ، فهي كلقطة دار الإسلام ، وإن كانت في دار الكفر ، فهي كالركاز .

                                                                                                                                            ( 4332 ) فصل : ولا فرق فيما ذكرنا بين دار الحرب ودار الإسلام ; لعموم الأخبار ، ولأن عامر دار الحرب إنما يملك بالقهر والغلبة ، كسائر أموالهم ، فأما ما عرف أنه كان مملوكا ، ولم يعلم له مالك معين ، فهو على الروايتين . فإن قيل : فهذا ملك كافر غير محترم ، فأشبه ديار عاد ، وقد دل عليه قوله عليه السلام : { عادي الأرض لله ولرسوله }

                                                                                                                                            ولأن الركاز من أموالهم ، ويملكه واجده ، فهذا أولى . قلنا : قوله : " عادي الأرض " . يعني ما تقدم ملكه ، ومضت عليه الأزمان ، وما كان كذلك فلا حكم لمالكه . فأما ما قرب ملكه ، فيحتمل أن له مالكا باقيا ، وإن لم يتعين ، فلهذا قلنا : لا يملك . على إحدى الروايتين . وأما الركاز ، فإنه ينقل ويحول ، وهذا بخلاف الأرض ، بدليل أن لقطة دار الإسلام تملك بعد التعريف ، بخلاف الأرض .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية