الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

والأدب هو الدين كله . فإن ستر العورة من الأدب . والوضوء وغسل الجنابة من الأدب . والتطهر من الخبث من الأدب . حتى يقف بين يدي الله طاهرا . ولهذا كانوا يستحبون أن يتجمل الرجل في صلاته . للوقوف بين يدي ربه .

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول : أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة . وهو أخذ الزينة . فقال تعالى خذوا زينتكم عند كل مسجد فعلق الأمر بأخذ الزينة ، لا بستر العورة ، إيذانا بأن العبد ينبغي له : أن يلبس أزين ثيابه ، وأجملها في الصلاة .

وكان لبعض السلف حلة بمبلغ عظيم من المال . وكان يلبسها وقت الصلاة . ويقول : ربي أحق من تجملت له في صلاتي .

ومعلوم : أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده . لاسيما إذا [ ص: 364 ] وقف بين يديه . فأحسن ما وقف بين يديه بملابسه ونعمته التي ألبسه إياها ظاهرا وباطنا .

ومن الأدب : نهى النبي صلى الله عليه وسلم المصلي : أن يرفع بصره إلى السماء .

فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول : هذا من كمال أدب الصلاة : أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقا ، خافضا طرفه إلى الأرض . ولا يرفع بصره إلى فوق .

قال : والجهمية - لما لم يفقهوا هذا الأدب ، ولا عرفوه - ظنوا أن هذا دليل أن الله ليس فوق سمواته على عرشه . كما أخبر به عن نفسه . واتفقت عليه رسله وجميع أهل السنة .

قال : وهذا من جهلهم . بل هذا دليل لمن عقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم على نقيض قولهم; إذ من الأدب مع الملوك : أن الواقف بين أيديهم يطرق إلى الأرض . ولا يرفع بصره إليهم . فما الظن بملك الملوك سبحانه ؟

وسمعته يقول - في نهيه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود - إن القرآن هو أشرف الكلام . وهو كلام الله . وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد . فمن الأدب مع كلام الله : أن لا يقرأ في هاتين الحالتين . ويكون حال القيام والانتصاب أولى به .

ومن الأدب مع الله : أن لا يستقبل بيته ولا يستدبره عند قضاء الحاجة . كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة ، وغيرهم . رضي الله عنهم . والصحيح : أن هذا الأدب : يعم الفضاء والبنيان . كما ذكرنا في غير هذا الموضع .

ومن الأدب مع الله ، في الوقوف بين يديه في الصلاة : وضع اليمنى على اليسرى حال قيام القراءة ، ففي الموطأ لمالك عن سهل بن سعد أنه من السنة ، وكان الناس [ ص: 365 ] يؤمرون به ولا ريب أنه من أدب الوقوف بين يدي الملوك والعظماء . فعظيم العظماء أحق به .

ومنها : السكون في الصلاة . وهو الدوام الذي قال الله تعالى فيه : الذين هم على صلاتهم دائمون . قال عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة : حدثني يزيد بن أبي حبيب : أن أبا الخير أخبره قال : سألنا عقبة بن عامر عن قوله تعالى : الذين هم على صلاتهم دائمون أهم الذين يصلون دائما ؟ قال : لا . ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ، ولا عن شماله ولا خلفه .

قلت : هما أمران . الدوام عليها . والمداومة عليها . فهذا الدوام . والمداومة في قوله تعالى : والذين هم على صلاتهم يحافظون وفسر الدوام بسكون الأطراف والطمأنينة .

وأدبه في استماع القراءة : أن يلقي السمع وهو شهيد .

وأدبه في الركوع : أن يستوي . ويعظم الله تعالى ، حتى لا يكون في قلبه شيء أعظم منه . ويتضاءل ويتصاغر في نفسه . حتى يكون أقل من الهباء .

والمقصود : أن الأدب مع الله تبارك وتعالى : هو القيام بدينه ، والتأدب بآدابه ظاهرا وباطنا .

ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء : معرفته بأسمائه وصفاته ، ومعرفته بدينه وشرعه ، وما يحب وما يكره . ونفس مستعدة قابلة لينة ، متهيئة لقبول الحق علما وعملا وحالا . والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية