الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 537 ] السادسة : الخطاب العام يتناول من صدر منه .

                وقال أبو الخطاب : إلا في الأمر ، إذ الإنسان لا يستدعي من نفسه ولا يستعلي عليها . ومنعه قوم مطلقا . بدليل : الله خالق كل شيء [ الزمر : 62 ] .

                لنا : المتبع عموم اللفظ ، وهو يتناوله ، ولو قال لغلامه : من رأيت أو دخل داري فأعطه درهما ; فرآه فأعطاه ، عد ممتثلا ، وإلا عد عاصيا . أما مع القرينة نحو : فأهنه ، أو فاضربه ; فلا ; لأنها مخصص . ويجب اعتقاد عموم العام والعمل به في الحال في أحد القولين ، اختاره أبو بكر ، والقاضي .

                والثاني حتى يبحث ; فلا يجد مخصصا اختاره أبو الخطاب وللشافعية كالمذهبين .

                وعن الحنفية قولان : أحدهما كالأول ، والثاني أنه إن سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ، على طريق تعليم الحكم فكذلك ، ومن غيره فلا . ثم هل يشترط حصول اعتقاد جازم بأن لا مخصص . أو تكفي غلبة الظن بعدمه ، فيه خلاف .

                لنا : وجب اعتقاد عمومه في الزمان حتى يظهر الناسخ ; فكذا في الأعيان حتى يظهر المخصص . ولأنه لو اعتبر في العام عدم المخصص ، لاعتبر في الحقيقة عدم المجاز ، بجامع الاحتمال فيهما ، ولأن الأصل عدم المخصص ; فيستصحب .

                قالوا : شرط العمل بالعام عدم المخصص ، وشرط العلم بالعدم الطلب ، ولأن وجوده محتمل ; فالعمل بالعموم إذن خطأ .

                قلنا : عدمه معلوم بالاستصحاب ، ومثله في التيمم ملتزم ، وظن صحة العمل بالعام مع احتمال المخصص كاف ، وهو حاصل ، وتخصيص العموم إلى أن يبقى واحد جائز ، وقيل : حتى يبقى أقل الجمع .

                [ ص: 538 ] لنا : التخصيص تابع للمخصص . والعام متناول للواحد .

                قالوا : ليس بعام .

                قلنا : لا يشترط .

                التالي السابق


                المسألة " السادسة : الخطاب العام يتناول من صدر منه ، وقال أبو الخطاب : إلا في الأمر " ، أي : المتكلم بكلام عام يدخل تحت عموم كلامه مطلقا في الأمر وغيره ، نحو قوله عليه السلام : من قال : لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة . وقال : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم . قالوا : ومنك ؟ قال : نعم إلا أن الله أعانني عليه فأسلم . وقال : لن [ ص: 539 ] يدخل الجنة أحدا عمله ، قالوا : ولا أنت ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل . وقوله عليه السلام : صلوا خمسكم وصوموا شهركم تدخلوا جنة ربكم .

                وفصل أبو الخطاب ; فقال : إن كان كلامه أمرا ، لم يدخل تحته ، وإن لم يكن أمرا ، دخل ، والفرق بينهما أن الأمر استدعاء الفعل على جهة الاستعلاء ; فلو دخل المتكلم تحت ما يأمر به غيره ، لكان مستدعيا من نفسه ، [ ص: 540 ] ومستعليا عليها ، وهو محال ، " ومنعه قوم مطلقا " ، أي : منعوا دخول المتكلم تحت عموم كلامه مطلقا في الأمر وغيره ; فصارت المذاهب ثلاثة : يدخل مطلقا ، وهو قول الأكثرين ، لا يدخل مطلقا ، وهو قول الأقلين ، الثالث تفصيل أبي الخطاب ، يدخل تحت عموم الخبر ونحوه دون الأمر والنهي .

                احتج المانعون مطلقا بقوله تعالى : الله خالق كل شيء [ الزمر : 62 ] ، ولو تناول المتكلم عموم كلامه ، للزم أن يكون الله عز وجل وصفاته مخلوقا لنفسه لتناول عموم لفظ الشيء له ، لكن ذلك محال .

                ولنا على المذهب الأول وجهان :

                أحدهما : أن المتبع عموم لفظ المتكلم وهو يتناوله كغيره . وأما الله عز وجل وصفاته ; فعموم قوله سبحانه وتعالى : الله خالق كل شيء يتناوله وضعا ، ويقتضي دخوله تحته لغة ، لكنه خص من العموم عقلا لامتناع ذلك في حقه عز وجل واستحالته عليه .

                الوجه الثاني : لو قال السيد لغلامه : من رأيت ; فأعطه درهما ، أو من دخل داري ; فأعطه درهما ; فرأى الغلام سيده ، أو دخل السيد دار نفسه ; فأعطاه الغلام درهما ، عد ممتثلا " وإلا " أي : وإن لم يعطه عد عاصيا ، وذلك يدل على أن المتكلم يدخل تحت عموم كلامه .

                قوله : " أما مع القرينة ، نحو : فأهنه ، أو فاضربه ; فلا ; لأنها مخصص " ، إلى آخره . هو جواب سؤال مقدر .

                وتقريره : أنه وإن دخل تحت عموم كلامه في الصورة التي ذكرتم ، [ ص: 541 ] لكنه لا يدخل في بعض الصور ، وذلك فيما إذا قال لغلامه : من رأيت ; فأهنه أو فاضربه ; فإنه لا يدخل تحت عموم كلامه حتى لو رأى الغلام سيده ; فأهانه أو ضربه ، لكان عاصيا ، ولم يكن له ذلك ، وإذا كان المتكلم يدخل تحت خطابه في صورة دون صورة ; لم يصح قولكم : إنه يتناوله مطلقا .

                وتقرير الجواب : أنه في هذه الصورة ونحوها إنما خرج عن عموم كلامه للقرينة ، وهو أن العاقل لا يأمر بإهانة نفسه ، والقرينة تخصص ، وبمثل هذا يجاب أبو الخطاب عن فرقه بين الأمر وغيره إن سلم له الفرق ، وهو أن يقال : إنما لم يدخل المتكلم تحت عموم أمره ونهيه لاستحالة تحقق الأمر منه لنفسه ، لما ذكرت من تعذر استدعائه منها ، واستعلائه عليها ، لا لأن كلامه مطلقا لا يصلح أن يتناوله ، وصار استحالة تحقق الأمر منه لنفسه قرينة مخصصة للأمر عن تناوله من صدر منه ; فافهم هذا ، والله تعالى أعلم .



                تنبيه : الخطاب الوارد على لسان الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، نحو : " يا أيها الناس " و " يا أيها الذين آمنوا " يتناوله كسائر المكلفين عند الأكثرين ، خلافا لطائفة من الفقهاء والمتكلمين .

                وقال الصيرفي والحليمي : إن كان في أول الخطاب أمر بالتبليغ ، نحو : قل : يا أيها الناس ، لم يتناوله ، وإلا تناوله .

                والصحيح أنه يتناوله مطلقا لعموم الصيغة ، ولأن الصحابة رضي الله عنهم فهموا تناول الخطاب العام له ، وأقرهم على ذلك حيث أمرهم بفسخ الحج [ ص: 542 ] إلى العمرة ; فتوقفوا ، وقالوا : أمرتنا بالفسخ ، ولم تفسخ .

                وخطاب الشرع الوارد في زمن النبوة عام للموجودين في ذلك الوقت ومن بعدهم خلافا لأكثر الشافعية والحنفية والمعتزلة ; احتجوا بأن المعدوم ليس أهلا للخطاب ; فلا يكون الخطاب متناولا له .

                ولنا الإجماع على تناول الخطاب الشرعي جميع الأمة على اختلاف طبقاتها إلى يوم القيامة . وأما المعدوم ; فيصح توجه الخطاب إليه بشرط وجوده ; فهو مكلف بهذا الاعتبار ، والله تعالى أعلم بالصواب .



                قوله : " ويجب اعتقاد عموم العام والعمل به " ، أي : إذا ورد اللفظ ، وجب اعتقاد كونه عاما " في الحال " ، وأن يعمل به " في أحد القولين . اختاره أبو بكر والقاضي " ، والقول " الثاني " : لا يجب ذلك " حتى يبحث ; فلا يجد مخصصا ، اختاره أبو الخطاب ، وللشافعية كالمذهبين ، وعن الحنفية قولان : أحدهما : كالأول " أي : يجب اعتقاد عمومه في الحال .

                والقول " الثاني " : فيه تفصيل ، وهو أن " العام إن سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ، على طريق تعليم الحكم فكذلك " ، أي : يجب اعتقاد عمومه في الحال ، وإن سمع من غير النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لم يجب اعتقاد عمومه حتى يبحث عن المخصص ، ثم إن القائلين بتوقف اعتقاد العموم على البحث عن المخصص اشترط بعضهم حصول اعتقاد جازم بعدم المخصص ، وهو القاضي أبو بكر . واكتفى بعضهم بحصول الظن الغالب بعدم المخصص ، وهم الأكثرون ، منهم : ابن سريج ، وإمام الحرمين ، والغزالي .

                قلت : هذا نقل " المختصر " ، وهو الذي في " الروضة " ، غير أن الشيخ أبا محمد إنما حكى الخلاف في وجوب اعتقاد العموم فقط ، ولم يتعرض [ ص: 543 ] لوجوب العمل بنفي ولا إثبات ، وأنا ذكرت مع ذلك وجوب العمل .

                وقال الآمدي : اتفق الكل على امتناع العمل بموجب العموم قبل البحث عن المخصص ، لكن اختلفوا في اعتقاد عمومه قبل ظهور المخصص ; فقال الصيرفي : يجب اعتقاد عمومه جزما ، وبظهور المخصص يزول ذلك الجزم .

                وقال القاضي أبو بكر : يمتنع اعتقاد عمومه إلا بعد القطع بانتفاء المخصص ، ثم ضعف القولين . أما قول الصيرفي ; فلأنه إن أراد باعتقاد عمومه جزما عموم اللفظ لغة ; فهو صحيح ، لكن ذلك لا يزول بظهور المخصص ، وإن أراد به اعتقاد إرادة العموم باللفظ ; فهو خطأ ; لأن احتمال إرادة الخصوص به قائم .

                وأما قول أبي بكر ; فلأنه يفضي إلى تعطيل العمومات ، إذ لا طريق إلى القطع بانتفاء المخصص ; لأن مدركه البحث النظري ، وهو إنما يفيد غلبة الظن .

                قلت : أنا واتفاقهم على امتناع العمل بالعام قبل البحث عن المخصص مع إيجاب بعضهم اعتقاد وجوبه مشكل جدا ، إذ لا يظهر لوجوب اعتقاد عمومه فائدة إلا العمل به فعلا أو كفا ; فلو قيل لنا : قاتلوا الكفار ، أو اقتلوهم ، واعتقدنا عمومه ، وجب علينا العمل بموجبه في قتال الكفار حتى اليهود والنصارى ، إلى أن يأتي المخصص لهم . ولو قال الشارع : حرمت عليكم الميتة ، واعتقدنا عمومه ، وجب علينا أن نكف عن كل ميتة حتى السمك والجراد حتى يوجد المخصص لهما ، وإن لم يكن الأمر هكذا ، لم يكن لوجوب اعتقاد عمومه فائدة .

                [ ص: 544 ] عدنا إلى الكلام على ما في " المختصر " .

                قوله : " لنا " ، إلى آخره ، أي : لنا على وجوب اعتقاد العموم قبل ظهور المخصص ، وجوه :

                أحدها : أن النسخ تخصيص في الأزمان كما أن تخصيص العام تخصيص في الأعيان ، ثم إن اعتقاد عموم اللفظ في الأزمان واجب حتى يظهر الناسخ ; فكذلك اعتقاد عمومه في الأعيان يجب أن يكون واجبا حتى يظهر المخصص ، فإذا قيل لنا : حرمت عليكم الميتة ; فهذا اللفظ يقتضي دوام التحريم في جميع زمن التكليف وهو العموم الزماني مع احتمال أنه يرفع في بعض الأزمنة بالنسخ ، ويقتضي أيضا تعلق التحريم بكل فرد من أفراد الميتة ، وهو العموم العيني مع احتمال أنه يسقط عن بعض الأعيان كالسمك والجراد ، ثم إنا في الأول لم نقل : إنا لا نعتقد دوام هذا التحريم في كل زمان لاحتمال ارتفاعه في بعض الأزمان بالنسخ ; فكذلك يجب أن لا نقول : إنا لا نعتقد تعلق التحريم بكل ميتة لاحتمال ارتفاعه عن بعض أفرادها بالتخصيص ، ولا نعني باعتقاد العموم إلا هذا .

                الوجه الثاني : لو اعتبر في وجوب اعتقاد كون اللفظ عاما عدم المخصص ; لاعتبر في وجوب اعتقاد كونه حقيقة عدم المجاز بجامع [ ص: 545 ] الاحتمال فيهما ، إذ اللفظ يحتمل كونه مجازا ، وإن كان الأصل فيه الحقيقة ، كما أن العام يحتمل أنه للخصوص ، وإن كان الأصل ، والظاهر فيه العموم ، لكن اللفظ لا يشترط في اعتقاد حقيقته عدم المجاز ، كذلك العام لا يشترط في اعتقاد عمومه عدم المخصص .

                الوجه الثالث : أن الظاهر العموم ، والأصل عدم المخصص ; فيستصحب حاله في العدم ; لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان ، فإن ظهر مخصص ، كان بطلان ذلك الاعتقاد خطأ في الاجتهاد ، وهو موضوع عن العباد كسائر خطأ الحكام والمجتهدين والأئمة .

                قوله : " قالوا " ، إلى آخره . هذه حجة الخصم على عدم جواز اعتقاد التعميم والعمل به ، وتقريرها من وجهين :

                أحدهما : أن " شرط العمل بالعام عدم المخصص " ; لأنه ينافيه ; فلا يجوز العمل بالعموم معه ، و " شرط العلم بالعدم الطلب " ، كما قلنا في طلب الماء لجواز التيمم ، ويلزم من ذلك أن لا يجوز العمل بالعام إلا بعد أن يطلب المخصص ; فلا يوجد ، وإذا لم يجز العمل بالعام ، لم يجز اعتقاد عمومه ، لما تقرر من أن اعتقاد العموم يوجب العمل بموجبه ; لأنه فائدته .

                الوجه الثاني : أن وجود المخصص محتمل قطعا ; فالعمل بالعموم مع الاحتمال المذكور يكون خطأ .

                [ ص: 546 ] قوله : " قلنا : عدمه " ، أي : عدم المخصص " معلوم بالاستصحاب " المذكور ; فيحصل شرط العمل بالعام " ومثله في التيمم ملتزم " ، أي : نلتزم في عدم الماء لإباحة التيمم ما التزمناه هاهنا ، وهو أنا لا نوجب طلب الماء ، ولا نشترطه لجواز التيمم ، بل نكتفي في عدمه باستصحاب حال فقده ، وهو أحد القولين عن الأمام أحمد رحمه الله ومذهب جماعة من الفقهاء ، ودليله قوله عز وجل : فلم تجدوا ماء فتيمموا [ المائدة : 6 ] ، وعدم الوجدان متحقق بمجرد الفقد بدون الطلب ، كقوله عز وجل : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا [ الكهف : 53 ] ، وقوله عز وجل : بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا [ الكهف : 58 ] ، أي : فقدوا هنالك المصرف والموئل ، وليس في الآية دليل على أنهم طلبوا ذلك ، فلم يجدوه ، ولا أن الطلب شرط في عدم وجدانهم له ، وقد أطلق عليه اسم الوجدان ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، وذلك يدل على أن الطلب ليس شرطا لعدم الوجدان في التيمم ولا غيره ، وحينئذ نقول : نكتفي في عدم الماء لجواز التيمم بالتراب باستصحاب حال فقده ، وفي عدم المخصص لوجوب اعتقاد عموم العام والعمل به باستصحاب حال فقده .

                قولهم : وجود المخصص محتمل قطعا .

                قلنا : نعم .

                قولهم : فالعمل بالعموم مع احتمال المخصص يكون خطأ .

                قلنا : لا نسلم ، وإنما يكون خطأ لو كان شرط العمل بالعام القطع بانتفاء [ ص: 547 ] المخصص ، وقد أبطلناه ، بل " ظن صحة العمل بالعام مع احتمال المخصص كاف ، وهو حاصل " .

                قلت : المختار في المسألة ما ذكرته في أولها وهو أن اعتقاد عموم العام والعمل به واجب بمجرد وروده ، والدليل عليه ظاهر ، وقد ذكرناه ، والله تعالى أعلم بالصواب .



                قوله : " وتخصيص العموم إلى أن يبقى واحد جائز ، وقيل : حتى يبقى أقل الجمع " .

                اختلفوا فيما يجوز أن ينتهي إليه تخصيص العموم ; فقيل : يجوز إلى الواحد ، وقيل : لا يجوز النقصان من أقل الجمع . وحكاه الشيخ أبو محمد عن أبي بكر الرازي ، والقفال ، والغزالي ، وحكى الآمدي عن القفال تفصيلا ، وهو أن في " من " خاصة يجوز التخصيص إلى الواحد ، وفي غيرها من أدوات العموم يشترط بقاء ثلاثة . وحكي عن أبي الحسين البصري أنه لا بد وأن يبقى بعد التخصيص في جميع أدوات العموم عدد يقرب من الأول وإن لم يكن محدودا ، وإليه ميل إمام الحرمين .

                وقال القرافي : يجوز التخصيص عندنا إلى الواحد ، وهو إطلاق القاضي عبد الوهاب ، وحكى الإمام إجماع أهل السنة على ذلك في من وما ونحوهما .

                قال ، يعني الإمام : وقال القفال : يجب أن يبقى أقل الجمع في الجموع المعرفة . وقال أبو الحسين : لا بد من الكثرة في الكل إلا إذا استعمله الواحد المعظم في نفسه ، يعني فلا يعتبر بقاء الكثرة ; لأن المراد به في الأصل واحد ، [ ص: 548 ] كقوله عز وجل : أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ الأنبياء : 47 ] .

                قلت : صورة المسألة أنه إذا قال : اقتلوا المشركين ، هل يجوز أن يخص حتى لا يبقى مأمور بقتله إلا مشرك واحد ، أو يشترط أن يبقى ثلاثة أو ما يقارب المشركين المأمور بقتلهم في الكثرة ، وكذلك في قوله عليه السلام : ومن بدل دينه ; فاقتلوه . على التفصيل والخلاف المذكور .

                قوله : " لنا " ، إلى آخره . هذا دليل المذهب الأول ، وهو جواز التخصيص إلى الواحد ، وتقريره أن " التخصيص تابع للمخصص ، والعام متناول للواحد " ، ويلزم من ذلك جواز التخصيص إليه .

                أما أن التخصيص تابع للمخصص ; فلأنه حيث وجد المخصص اقتضى رفع ما يطابقه من العام ، بمعنى أنه تبين أن مدلوله غير مراد من العموم ; فيخرج عن الإرادة به .

                وأما أن العام متناول للواحد ; فظاهر على ما سبق في بيانه لغة وحده اصطلاحا ، وهو الشمول والاستغراق .

                وأما أنه يلزم من ذلك جواز التخصيص إلى الواحد ; فلأنه كلما ورد التخصيص بفرد من أفراد العام ، اقتضى أن ذلك الفرد غير مراد حتى ينتهي إلى الواحد ، وهو أقل ما يبقى من العام ، أو نقول : التخصيص بيان أن بعض [ ص: 549 ] العام غير مراد بالحكم ، والبعض المخصوص أعم من أن يكون أقل العموم أو أكثره أو نصفه ; فما عدا الواحد يصدق عليه اسم البعض ; فيجوز بيان أنه غير مراد ، وهو المطلوب .

                قوله : قالوا : ليس بعام ، أي : قال المانعون للتخصيص إلى الواحد : إن الواحد ليس بعام ; فلا يجوز التخصيص إليه .

                " قلنا : لا يشترط " أي : لا يشترط أن يكون الباقي بعد التخصيص عاما ، بل هو محال ; لأن العام هو المستغرق لجميع ما يصلح له ، فإذا خص بفرد واحد من أفراده ، يخرج عن كونه مستغرقا ; فلا يصح أن يبقى بعد ذلك عاما ، وكأنهم يريدون أن الواحد ليس بجمع أو ليس بكثير بناء على ما فهم من مذاهبهم ، أنه يشترط أن تبقى الكثرة على رأي أبي الحسين ، أو أقل الجمع على رأي الغزالي ومن تابعه ، وكل ذلك لا يشترط عملا بالدليل المذكور والله أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية