الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الباب الثاني فيما يكون به الصيد .

- والأصل في هذا الباب آيتان وحديثان :

الآية الأولى : قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ) .

والثانية : قوله تعالى : ( قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ) الآية .

وأما الحديثان :

فأحدهما : حديث عدي بن حاتم : وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها فكل مما أمسكن عليك ، وإن أكل الكلب فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ، وإن خالطها كلاب غيرها فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ، ولم تسم على غيره " . وسأله عن المعراض فقال : " إذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ " . وهذا الحديث هو أصل في أكثر ما في هذا الكتاب .

والحديث الثاني : حديث أبي ثعلبة الخشني ، وفيه من قوله عليه الصلاة والسلام : " ما أصبت بقوسك فسم الله ثم كل ، وما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل ، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم وأدركت ذكاته فكل " . وهذان الحديثان اتفق أهل الصحيح على إخراجهما .

[ ص: 375 ] والآلات التي يصاد بها : منها ما اتفقوا عليها بالجملة ، ومنها ما اختلفوا فيها وفي صفاتها ، وهي ثلاث : حيوان جارح ، ومحدد ومثقل .

فأما المحدد : فاتفقوا عليه كالرماح والسيوف والسهام ، للنص عليها في الكتاب والسنة . وكذلك بما جرى مجراها مما يعقر ، ما عدا الأشياء التي اختلفوا في عملها في ذكاة الحيوان الإنسي ، وهي : السن والظفر والعظم . وقد تقدم اختلافهم في ذلك ، فلا معنى لإعادته .

وأما المثقل : فاختلفوا في الصيد به ، مثل الصيد بالمعراض والحجر ، فمن العلماء من لم يجز من ذلك إلا ما أدركت ذكاته ، ومنهم من أجازه على الإطلاق ، ومنهم من فرق بين ما قتله المعراض أو الحجر بثقله أو بحده إذا خرق جسد الصيد ; فأجازه إذا خرق ، ولم يجزه إذا لم يخرق ، وبهذا القول قال مشاهير فقهاء الأمصار : الشافعي ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، والثوري ، وغيرهم ، وهو راجع إلى أنه لا ذكاة إلا بمحدد .

وسبب اختلافهم : معارضة الأصول في هذا الباب بعضها بعضا ، ومعارضة الأثر لها ، وذلك أن من الأصول في هذا الباب أن الوقيذ محرم بالكتاب والإجماع ، ومن أصوله أن العقر ذكاة الصيد .

فمن رأى أن ما قتل المعراض وقيذ منعه على الإطلاق . ومن رآه عقرا مختصا بالصيد ; وأن الوقيذ غير معتبر فيه أجازه على الإطلاق . ومن فرق بين ما خرق من ذلك أو لم يخرق فمصيرا إلى حديث عدي بن حاتم المتقدم ، وهو الصواب .

وأما الحيوان الجارح : فالاتفاق والاختلاف فيه : منه متعلق بالنوع والشرط ، ومنه ما يتعلق بالشرط .

فأما النوع الذي اتفقوا عليه : فهو الكلاب ، ما عدا الكلب الأسود ، فإنه كرهه قوم منهم : الحسن البصري وإبراهيم النخعي ، وقتادة . وقال أحمد : ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما ، وبه قال إسحاق . وأما الجمهور فعلى إجازة صيده إذا كان معلما .

وسبب اختلافهم : معارضة القياس للعموم ، وذلك أن عموم قوله تعالى : ( وما علمتم من الجوارح مكلبين ) يقتضي تسوية جميع الكلاب في ذلك . " وأمره عليه الصلاة والسلام بقتل الكلب الأسود البهيم " يقتضي في ذلك القياس أن لا يجوز اصطياده على رأي من رأى أن النهي يدل على فساد المنهي عنه .

وأما الذي اختلفوا فيه من أنواع الجوارح فيما عدا الكلب ، ومن جوارح الطيور وحيواناتها الساعية : فمنهم من أجاز جميعها إذا علمت حتى السنور ، كما قال ابن شعبان ، وهو مذهب مالك وأصحابه ، وبه قال فقهاء الأمصار ، وهو مروي عن ابن عباس ( أعني : أن ما قبل التعليم من جميع الجوارح فهو آلة لذكاة الصيد ) . وقال قوم : لا اصطياد بجارح ما عدا الكلب ، لا باز ، ولا صقر ، ولا غير ذلك ; إلا ما أدركت ذكاته ، وهو قول مجاهد . واستثنى بعضهم من الطيور الجارحة البازي فقط فقال : يجوز صيده وحده .

وسبب اختلافهم في هذا الباب شيئان :

أحدهما : قياس سائر الجوارح على الكلاب . وذلك أنه قد يظن أن النص إنما ورد في الكلاب أعني : قوله تعالى : ( وما علمتم من الجوارح مكلبين ) ، إلا أن يتأول أن لفظة مكلبين مشتقة من كلب الجارح لا من لفظ الكلب ، ويدل على هذا عموم اسم الجوارح الذي في الآية ، فعلى هذا يكون سبب الاختلاف الاشتراك الذي في لفظة مكلبين .

[ ص: 376 ] والسبب الثاني : هل من شرط الإمساك الإمساك على صاحبه أم لا ؟ وإن كان من شرطه فهل يوجد في غير الكلب أو لا يوجد ؟ .

فمن قال : لا يقاس سائر الجوارح على الكلاب ; وأن لفظة مكلبين هي مشتقة من اسم الكلب لا من اسم غير الكلب ; أو أنه لا يوجد الإمساك إلا في الكلب ( أعني : على صاحبه ) وأن ذلك شرط ، قال : لا يصاد بجارح سوى الكلب .

ومن قاس على الكلب سائر الجوارح ، ولم يشترط في الإمساك الإمساك على صاحبه قال : يجوز صيد سائر الجوارح إذا قبلت التعليم .

وأما من استثنى من ذلك البازي فقط فمصيرا إلى ما روي عن عدي بن حاتم أنه قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال : ما أمسك عليك فكل " . خرجه الترمذي .

فهذه هي أسباب اتفاقهم واختلافهم في أنواع الجوارح .

وأما الشروط المشترطة في الجوارح : فإن منها ما اتفقوا عليه ، وهو التعليم بالجملة ، لقوله تعالى : ( وما علمتم من الجوارح مكلبين ) ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا أرسلت كلبك المعلم " . واختلفوا في صفة التعليم وشروطه ، فقال قوم : التعليم ثلاثة أصناف :

أحدها : أن تدعو الجارح فيجيب .

والثاني : أن تشليه فينشلي .

والثالث أن تزجره فيزدجر . ولا خلاف بينهم في اشتراط هذه الثلاثة في الكلب ، وإنما اختلفوا في اشتراط الانزجار في سائر الجوارح .

فاختلفوا أيضا في : هل من شرطه أن لا يأكل الجارح ؟ فمنهم من اشترطه على الإطلاق ، ومنهم من اشترطه في الكلب فقط . وقول مالك : إن هذه الشروط الثلاثة شرط في الكلاب وغيرها . وقال ابن حبيب من أصحابه : ليس يشترط الانزجار فيما ليس يقبل ذلك من الجوارح مثل البزاة والصقور ، وهو مذهب مالك ( أعني : أنه ليس من شرط الجارح لا كلب ولا غيره أن لا يأكل ) . واشترطه بعضهم في الكلب ، ولم يشترطه فيما عداه من جوارح الطيور ، ومنهم من اشترطه كما قلنا في الكل .

والجمهور على جواز أكل صيد البازي والصقر وإن أكل ، لأن تضريته إنما تكون بالأكل ، فالخلاف في هذا الباب راجع إلى موضعين :

أحدهما : هل من شرط التعليم أن ينزجر إذا زجر ؟ .

والثاني : هل من شرطه ألا يأكل ؟ .

وسبب الخلاف في اشتراط الأكل أو عدمه شيئان :

أحدهما : اختلاف الآثار في ذلك .

والثاني : هل إذا أكل فهو ممسك أم لا ؟

فأما الآثار : فمنها حديث عدي بن حاتم المتقدم وفيه : " فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه " .

[ ص: 377 ] والحديث المعارض لهذا حديث أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله فكل ، قلت : وإن أكل منه يا رسول الله ؟ قال : وإن أكل " .

فمن جمع بين الحديثين : بأن حمل حديث عدي بن حاتم على الندب ، وهذا على الجواز قال : ليس من شرطه ألا يأكل . ومن رجح حديث عدي بن حاتم إذ هو حديث متفق عليه ; وحديث أبي ثعلبة مختلف فيه ; ولذلك لم يخرجه الشيخان البخاري ومسلم ، وقال : من شرط الإمساك أن لا يأكل بدليل الحديث المذكور قال : إن أكل الصيد لم يؤكل ، وبه قال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، والثوري ، وهو قول ابن عباس .

ورخص في أكل ما أكل الكلب كما قلنا : مالك ، وسعيد بن مالك ، وابن عمر وسليمان . وقالت المالكية المتأخرة : إنه ليس الأكل بدليل على أنه لم يمسك لسيده ولا الإمساك لسيده بشرط في الذكاة ، لأن نية الكلب غير معلومة ، وقد يمسك لسيده ثم يبدو له فيمسك لنفسه .

وهذا الذي قالوه خلاف النص في الحديث وخلاف ظاهر الكتاب ، وهو قوله تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) وللإمساك على سيد الكلب طريق تعرف به ، وهو العادة ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه " .

وأما اختلافهم في الازدجار : فليس له سبب إلا اختلافهم في قياس سائر الجوارح في ذلك على الكلب ، لأن الكلب الذي لا يزدجر لا يسمى معلما باتفاق ، فأما سائر الجوارح إذا لم تنزجر هل تسمى معلمة أم لا ؟ ففيه التردد ، وهو سبب الخلاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية