الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 611 ] وإذا تعقب الاستثناء جملا نحو : ( والذين يرمون المحصنات ) [ النور : 4 ] ، إلى قوله تعالى : ( إلا الذين تابوا ) [ النور : 5 ] ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن الرجل في سلطانه ، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه " . عاد إلى الكل عندنا وعند الشافعية .

                وإلى الأخيرة عند الحنفية . وتوقف المرتضى توقفا اشتراكيا ، والقاضي أبو بكر والغزالي توقفا عارضيا .

                لنا : العطف يوجب اتحاد الجمل معنى ; فعاد إلى الكل ، كما لو اتحد لفظا ، ولأن تكرير الاستثناء عقيب كل جملة عي قبيح باتفاق أهل اللغة ; فمقتضى الفصاحة العود إلى الكل ، ولأن الشرط يعود إلى الكل نحو : نسائي طوالق ، وعبيدي أحرار إن كلمت زيدا ; فكذلك الاستثناء بجامع افتقارهما إلى متعلق ، ولهذا يسمى التعليق بمشيئة الله تعالى استثناء ، لا يقال : رتبة الشرط التقديم بخلاف الاستثناء ; لأنا نقول عقلا لا لغة . ثم الكلام فيما إذا تأخر ولا فرق ; ثم يلزمكم أن يتعلق بالأولى فقط مطلقا ، أو إذا تقدم وهو باطل .

                قالوا : تفاصلت الجمل بالعاطف ، أشبه الفصل بكلام أجنبي ، وتعلق الاستثناء ضروري ; فاندفع بما ذكرناه . و المرجح القرب كإعمال أقرب العاملين ، وعوده إلى الكل مشكوك ; فلا يرفع العموم المتيقن .

                وأجيب : بأنا قد بينا أن العطف بواو الجمع يوجب اتحادا معنويا ، وهو المعتبر دون التفاصل اللفظي . وتعلق الاستثناء بما قبله لصلاحيته له لا ضرورة . وإعمال أقرب العاملين بصري معارض بعكسه عند الكوفيين . وتيقن العموم قبل تمام الكلام ممنوع ، وإنما يتم بالاستثناء .

                المرتضى : استعمل في اللغة عائدا إلى الكل ، وإلى البعض ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ، وقياسا على الحال والظرفين .

                [ ص: 612 ] القاضي : تعارضت الأدلة فيطلب المرجح الخارجي .

                التالي السابق


                قوله : وإذا تعقب الاستثناء جملا " ، أي : وقع الاستثناء عقيب جمل ، كقوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا ) [ النور : 4 ، 5 ] ، " وكقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه " . عاد الاستثناء " إلى الكل " ، أي : إلى جميع الجمل التي قبله ؛ ما لم يمنع مانع من عوده إلى بعضها " عندنا وعند الشافعية " ، " وإلى " الجملة " الأخيرة " خاصة " عند الحنفية . وتوقف المرتضى " من الشيعة " توقفا اشتراكيا " ، أي : يصلح رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل وإلى الجملة الأخيرة على جهة الاشتراك والتساوي ، ولا رجحان لأحدهما على الآخر ، كما يصلح لفظ القرء للحيض والطهر ، ولفظ العين لمسمياته . وتوقف " القاضي أبو بكر و الغزالي توقفا عارضيا " ، أي : لتعارض الدليل في كونه يختص بالأخيرة ، أو يرجع إلى الجميع ، لا لكونه صالحا للرجوع إليهما بالاشتراك .

                وقال الآمدي : ( إن ظهر ) أن " الواو " للابتداء ، كقوله : أكرم بني تميم والنحاة البصريون إلا البغاددة ، اختص بالأخيرة ، وإن ترددت بين العطف [ ص: 613 ] والابتداء ; فالوقف .

                قلت : التحقيق أنه إن كان في الكلام قرينة معنوية أو لفظية تدل على ما يرجع إليه الاستثناء ; تعين العمل بمقتضاها ، وإلا فالمختار الأول .

                مثال القرينة المعنوية قوله : نسائي طوالق وعبيدي أحرار وخيلي وقف إلا الحيض ; فهذا راجع إلى الجملة الأولى بقرينة الحيض المختص بالنساء ، ولو قال : إلا الزنجيين أو الهنديين ، أو الحبشان ، اختص بالثانية ; لأن هذه الصفات في العرف مختصة بالعبيد ، ولو قال : إلا الدهم أو العراب ، اختص بالأخيرة ; لأن هذه صفات الخيل عرفا .

                ومثال اللفظية ما ذكره الآمدي من ظهور الابتداء في الواو ونحو ذلك ، وفي المسألة تفصيل كثير .

                قوله : " لنا : العطف يوجب اتحاد الجمل " إلى آخره .

                هذا حجة القائلين برجوع الاستثناء إلى جميع الجمل ، وهو من وجوه :

                أحدها : أن العطف بالواو يوجب اتحاد الجمل في المعنى ; لأن الواو للجمع ; فيكون الاستثناء المتعقب لها عائدا إلى جميعها ، كما لو اتحدت لفظا إذ لا فرق في المعنى بين قوله : اضرب من قتل وسرق إلا من تاب ، وبين قوله : اضرب الجماعة الذين هم قتلة وسراق إلا من تاب ; فكما يرجع [ ص: 614 ] الاستثناء هاهنا إلى الجميع ; فكذلك يرجع إلى الذي قبله .

                الوجه الثاني : أن " تكرير الاستثناء عقيب كل جملة عي قبيح باتفاق أهل اللغة " ، إذ لا يجوز في لسان الفصحاء أن يقال : فاجلدوهم إلا الذين تابوا ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا ، وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا .

                وحيث الأمر كذلك ; فمقتضى الفصاحة أن يعود الاستثناء إلى الكل لصلاحيته له ، وإلا لم يقبح التكرار المذكور ، بل كان يتعين فيما إذا أريد رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل .

                الوجه الثالث : أن الشرط يعود إلى جميع الجمل قبله ، " نحو : نسائي طوالق ، وعبيدي أحرار إن كلمت زيدا " ; فيكون تكليمه زيدا شرطا في وقوع الطلاق والعتق جميعا ; فكذلك الاستثناء مثله ، والجامع بينهما افتقار كل منهما إلى ما يتعلق به ; فالشرط يتعلق بمشروطه ، ولا يستقل بدونه ، والاستثناء يتعلق بالمستثنى منه ولا يستقل بدونه ، " ولهذا " أي : لاشتراكهما في التعلق ، وعدم الاستقلال " يسمى التعليق بمشيئة الله تعالى استثناء " كالاستثناء في اليمين ، والإيمان ، والطلاق ، نحو : والله لأفعلن كذا إن شاء الله تعالى ، وأنا مؤمن إن شاء الله ، وأنت طالق إن شاء الله ، ونحو ذلك . وإذا ثبت أن بين الشرط والاستثناء هذا الاشتراك الخاص ، وجب أن يستويا في رجوع كل منهما إلى جميع الجمل قبله .

                [ ص: 615 ] - قوله : " لا يقال : رتبة الشرط التقديم بخلاف الاستثناء " .

                هذا قدح من الخصم في قياس الاستثناء على الشرط في رجوعه إلى جميع الجمل ، وذلك ببيان الفرق بينهما .

                وتقريره أن يقال : الشرط رتبته التقديم حكما ; لأن وجوده يجب أن يكون قبل وجود المشروط ، ومقتضى ذلك أن يكون لفظه مقدما ، نحو : إن دخلت الدار ; فأنت طالق ، ليطابق اللفظ الحكم والوضع الطبع ، فإذا تأخر لفظه عن الجمل ، تعلق بجميعها ; لأن له حقا في التقدم ; فهو وإن تأخر لفظا ; فهو متقدم حكما ; فتعلق بما يليه من جهة لفظه ، وبما قبله من جهة حكمه .

                وشبيه بذلك ما يذكره النحويون في تقديم الفاعل والمفعول ، نحو : ضرب غلامه زيد ، وضرب غلامه زيدا ، حيث صحت الأولى دون الثانية ، ولا كذلك الاستثناء ; فإنه تابع متأخر لفظا وحكما ، لا حق له في التقديم حتى يقوى بذلك على رجوعه إلى أول الجمل ; فبان بذلك الفرق بين الشرط والاستثناء .

                - قوله : " لأنا نقول عقلا لا لغة " ، هذا جواب عن الفرق المذكور من وجوه :

                أحدها : قولهم : رتبة الشرط التقديم .

                قلنا : في العقل لا في اللغة ، وكلامنا في بحث لغوي لا عقلي ، ولا يلزم [ ص: 616 ] من توقف المشروط على الشرط ولزوم تقدمه عقلا أن لا يساويه الاستثناء فيما ذكرناه .

                الوجه الثاني : أن كلامنا فيما إذا تأخر الشرط ، وحينئذ لا فرق بينه وبين الاستثناء ; لأن كلا منهما متأخر عن الجمل ، وما ذكر من استحقاقه التقدم أمر عقلي لا اعتبار به هاهنا ; فلا فرق إذن بين قوله : نسائي طوالق وعبيدي أحرار إن كلمت زيدا ، وبين قوله : نسائي طوالق وعبيدي أحرار إلا أن أكلم زيدا .

                الوجه الثالث : أن على ما ذكرتموه من الفرق ، يلزمكم أن يتعلق الشرط بالجملة الأولى فقط ; إما مطلقا سواء تقدم لفظه ، أو تأخر نظرا إلى استحقاقه التقديم حكما ، أو إذا تقدم لفظه ، نحو : إن كلمت زيدا ; فنسائي طوالق ، وعبيدي أحرار ; فيعتق عبيده في الحال ، ويتوقف طلاق نسائه على تكليمه زيدا ، لكن ذلك باطل باتفاق ; فدل على أن استحقاق الشرط للتقديم حكما لا تأثير له في الفرق المذكور ، وحينئذ يستوي الشرط والاستثناء في تعلقهما بجميع الجمل المذكورة قبلهما وهو المطلوب .

                - قوله : " قالوا : تفاصلت الجمل بالعاطف " ، إلى آخره .

                [ ص: 617 ] هذه حجة الحنفية على اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة ، وتقريرها من وجوه :

                أحدها : أن الجمل تفاصلت بالعاطف ، أي : وقع الفصل بين كل جملتين منها بحرف العطف ; فأشبه الفصل بكلام أجنبي ، ولو فصل بينهما بكلام أجنبي ، لم يعد الاستثناء إلى الجميع ; فكذا ما أشبهه .

                الوجه الثاني : أن تعلق الاستثناء بما قبله ضروري ، أي : لضرورة عدم استقلاله بنفسه ، وهذه الضرورة تندفع بما ذكرناه من تعلقه بجملة واحدة ; فلا حاجة إلى تعلقه بغيرها لخروجه عن محل الضرورة ، والمرجح للأخيرة على سائر الجمل قربها من الاستثناء ، وللقرب تأثير في الترجيح كإعمال أقرب العاملين عند البصريين ، نحو : ضربت وضربني زيد ، وسببت وسبني بنو عبد شمس و :

                جرى فوقها واستشعرت لون مذهب

                الوجه الثالث : أن العموم في كل واحدة من الجمل متيقن ، وعود الاستثناء إلى كل واحدة منهن مشكوك فيه ; فلا يرفع العموم المتيقن بالشك ، وإنما [ ص: 618 ] رفعنا عموم الجملة الأخيرة ضرورة تعلق الاستثناء بغيره ، وعدم استقلاله بدونه فثبت بهذه الوجوه أن الاستثناء يختص بالأخيرة دون غيرها .

                - قوله : " وأجيب " ، إلى آخره . هذا جواب عن الأوجه الثلاثة :

                أما عن الأول ; فقولهم " تفاصلت الجمل بالعاطف أشبه الفصل بكلام أجنبي " .

                قلنا : " قد بينا أن العطف بواو الجمع يوجب اتحادا معنويا " ، ولهذا قدرت التثنية والجمع ، نحو : الزيدان والزيدون بالعطف ، نحو : قام زيد وزيد وزيد ، وشبه ذلك بقولهم : قاموا ، فواو العطف ، والجمع ، والضمير المتصل بالفعل أشباه ، والمعتبر هاهنا هو الاتحاد المعنوي ، " دون التفاصل اللفظي " وحينئذ تصير الجمل كالجملة الواحدة ، لربط الواو المقتضية للجمع بينها ; فيكون الاستثناء راجعا إلى الجميع .

                وأما الجواب عن الثاني ; فقولهم : " تعلق الاستثناء ضروري ; فاندفع بما ذكرناه " .

                قلنا : لا نسلم أن تعلق الاستثناء بما قبله للضرورة ، بل لصلاحية ما قبله لتعلقه به ، وسائر الجمل صالح لتعلق الاستثناء به ، ما لم يمنع من تعلقه ببعضها مانع خاص ، كقوله سبحانه وتعالى : ( فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا ) [ النساء : 92 ] ; فهذا الاستثناء راجع إلى [ ص: 619 ] الدية ، لا إلى التحرير ; لأنه ليس بحق الورثة حتى يصدقوا به ، وكذلك الاستثناء من الاستثناء ، اختص بالجملة الأخيرة ; لأن الاستثناء من النفي إثبات ، ومن الإثبات نفي ; فلو عاد إلى جميع ما قبله ، لزم استثناء النفي من النفي ، أو الإثبات من الإثبات ، ثم ما ذكروه يبطل بالشرط كما سبق ، وبالصفة ، نحو : أكرم بني تميم ، وبني أسد الطوال ; فإنه يتعلق بجميع الجمل ، مع أن ضرورة التعلق تندفع بتعلقه بالجملة الواحدة .

                وأما ترجيحهم الجملة الأخيرة بالقرب ، قياسا على إعمال أقرب العاملين ; فإعمال أقرب العاملين بصري ، أي : هو رأي البصريين ، وهو معارض بعكسه عند الكوفيين ; فإنهم يعملون أبعد العاملين ، لأوليته وسبقه ، نحو : ضربت وضربني زيدا ، وضربني وضربت زيد ، ويحتجون بنحو قوله :


                تنخل فاستاكت به عود إسحل

                وقوله :


                كفاني ولم أطلب قليل من المال

                [ ص: 620 ]

                ورضت فذلت صعبة أي إذلال

                وهي حجج صحيحة في الباب .

                وعلى هذا فلقائل أن يقول : يتعلق الاستثناء بالجملة الأولى ، لأوليتها وسبقها ; فيتعارض القولان ، ولا مرجح .

                وأما الجواب عن الثالث ; فقولهم : " عود الاستثناء إلى الكل مشكوك ; فلا يرفع العموم المتيقن " .

                قلنا : " تيقن المعلوم " في الجمل ; إن أردتم أنه حاصل قبل تمام الكلام فهو " ممنوع " وإن أردتم أنه بعد تمام الكلام ; فالكلام " إنما يتم بالاستثناء " وبعد الاستثناء ، لا يبقى العموم متيقنا حتى يكون رفعه بالشك ممتنعا ، إلا على قولكم : إنه يتعلق بالجملة الأخيرة ، ويبقى العموم فيما قبلها ، لكن هذا يصير استدلالا بمحل النزاع ; فلا يسمع .

                [ ص: 621 ] قوله : " المرتضى " ، أي : احتج المرتضى على ما ادعاه في المسألة من الاشتراك ; بأن الاستثناء المتعقب للجمل ، استعمل في اللغة عائدا إلى الجميع تارة ، وإلى البعض أخرى ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ; فيكون مشتركا ، وبالقياس على الحال والظرفين : ظرف الزمان والمكان ; فإنه لو قال : ضربت زيدا وعمرا وبكرا قائما ; احتمل أن يكون هذا الحال لجميعهم ، وأن يكون للأخيرة منهم . ولو قال : علمت المسير ، والقتال ، والصوم يوم الجمعة ، احتمل تعلق الظرف بالمصادر الثلاثة ، واحتمل تعلقه بالأخير منها . ولو قال : رأيت زيدا وعمرا وبكرا في الدار ، احتمل تعلق الظرف المكاني بهم ، أو بآخرهم ; فكذلك الاستثناء في تعلقه بجميع الجمل أو بآخرها ، والجامع بينه وبين الحال والظرفين ; كونها منصوبات غير مستقلة بنفسها ، مفتقرة إلى ما يتعلق به .

                - قوله : " القاضي " ، أي : احتج القاضي على الوقف بأن قال : " تعارضت الأدلة " في المسألة كما قد تقرر ، ومع تعارضها يمتنع الجزم بأحدها ; فيجب الوقف ، " ويطلب المرجح الخارجي " عن الأدلة المذكورة .

                قلت : واعترض على ما قاله المرتضى : بأن يقال : استعمال الاستثناء راجعا إلى الجملة الأخيرة لمانع ، أو مجازا ، والحقيقة ما ذكرناه ، وإذا تعارض الاشتراك والمجاز ، كان المجاز أولى ، وقياس الاستثناء على الحال والظرفين قياس في اللغة ، وهو ممنوع ، وإن سلمناه ; فإنما يلزم الاشتراك أن لو كان احتمال رجوع الحال والظرف إلى الجميع والبعض على السواء ، وهو [ ص: 622 ] ممنوع ، بل رجوعه إلى الجميع أظهر ، وكذا نقول في الاستثناء .

                والاعتراض على ما قاله القاضي : بأن الوقف ليس بمذهب ، بل هو تعطيل للمذاهب ، وتردد بينها ، وتحير فيها ، وما هذا شأنه ; فإنما يسوغ عند تكافؤ الأدلة وتساويها ، وهو ممنوع هاهنا ، بل أحد المذاهب ظاهر الرجحان ، وهو ما ذكرناه إن شاء الله تعالى .

                فرع : قوله سبحانه وتعالى : ( والذين يرمون المحصنات ) الآية ، إلى قوله تعالى : ( إلا الذين تابوا ) [ النور : 4 ، 5 ] ، تضمنت الآية أن القذف متعلق به ثلاثة أحكام : وجوب الحد ، ورد الشهادة ، وثبوت الفسق . فمن رد الاستثناء إلى جميع الجمل ، قال : القاذف إذا تاب ، تعود عدالته ، وتقبل شهادته ، وكان مقتضى هذا الأصل أن يسقط الجلد عنه ، لكن منع من ذلك كونه حق آدمي . ومن رد الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط ، وهو أبو حنيفة رحمه الله ، قال : إذا تاب القاذف ، زال فسقه ، ولم تقبل شهادته ; لأن الاستثناء في قوله تعالى : ( إلا الذين تابوا ) لم يتعلق بقوله تعالى : ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) [ النور : 4 ] ; فيبقى على عمومه في الزمان ، وجعل سلب أهلية الشهادة من عقوبات القذف كالجلد ، وكما أن الحد لا يرتفع بالتوبة ، كذلك رد الشهادة ; فمذهب أبي حنيفة أن المجلود في القذف لا تقبل شهادته .

                وتلخص من هذا : أن الأحكام الثلاثة المتعلقة بالقذف :

                [ ص: 623 ] منها : ما لا تؤثر التوبة في رفعه بالإجماع ، وهو الجلد .

                ومنها : ما تؤثر في رفعه بالإجماع ، وهو الفسق .

                ومنها : ما وقع النزاع فيه ، هل يرتفع بها أم لا ؟ وهو رد الشهادة هذا ما دل عليه ظاهر اللفظ ، وفهمه منه أكثر العلماء .

                والذي ينقدح من قوة الكلام : أن الآية إنما تضمنت حكمين : وجوب الحد ، وثبوت الفسق .

                أما رد الشهادة ; فهو من آثار الفسق ، ومرتب عليه ، فإذا زال الفسق ، الذي هو المؤثر بالتوبة ، زال أثره ، الذي هو رد الشهادة .

                وعلى هذا التقدير يتجه النزاع في قبول الشهادة أيضا ، بناء على أن العلة إذا زالت ، هل يجب زوال معلولها أم لا ؟ فإن قلنا : يجب ، زال رد الشهادة بزوال الفسق ; فوجب قبولها ، وإن قلنا : لا يجب ، استصحب الحال في رد الشهادة ، واحتاج قبولها إلى دليل طارئ .

                ويحتمل أن يقال : إن الآية إنما تضمنت حكمين : وجوب الحد ، ورد الشهادة ، وهو من لوازم الفسق ، وكان قوله سبحانه وتعالى : ( وأولئك هم الفاسقون ) [ النور : 4 ] ، تأكيد لرد الشهادة بذكر ملزومه ، وهو الفسق ; فتكون الجملتان ، أعني رد الشهادة والفسق كالجملة الواحدة ; فيرجع الاستثناء [ ص: 624 ] إليها إجماعا ; فيزول رد الشهادة ; فيجب قبولها ، وينتفي ملزومه وهو الفسق ، بانتفاء لازمه وهو رد الشهادة .

                ومن أمثلة هذا الأصل ، قوله عليه الصلاة والسلام : " لا يؤمن الرجل في سلطانه ، ولا يجلس على تكرمته ، إلا بإذنه " . فمن رد الاستثناء إلى الجملتين ، قال : الإذن شرط في الحكمين ، وهما : أن يتقدم على الرجل في سلطانه غيره في إمامة الصلاة ، وأن يجلس على تكرمته غيره بإذنه ، ومن علقه بالأخيرة فقط ، قال : الإذن يشترط في جلوسه على تكرمته فقط ، أما تقدمه عليه في الصلاة ; فلا دلالة في الحديث على جوازه ، بإذنه أو غير إذنه ، بل يقف الأمر على دليل خارج ، والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية