الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            الحكم الثاني ، أن هذا العقد يقع فاسدا ، لا يقف على الإجازة ، ولا يصير بالإجازة صحيحا ، وكذلك الحكم إذا زوج الأجنبي أو زوجت المرأة المعتبر إذنها بغير إذنها ، أو تزوج العبد بغير إذن سيده ، فالنكاح في هذا كله باطل ، في أصح الروايتين . نص عليه أحمد في مواضع . وهو قول الشافعي ، وأبي عبيد وأبي ثور . وعن أحمد رواية أخرى ، أنه يقف على الإجازة ; فإن أجازه جاز ، وإن لم يجزه فسد . قال أحمد ، في صغير زوجه عمه : فإن رضي به في وقت من الأوقات ، جاز ، وإن لم يرض ، فسخ

                                                                                                                                            وإذا زوجت اليتيمة ، فلها الخيار إذا بلغت . وقال : إذا زوج العبد بغير إذن سيده ، ثم علم السيد ، فإن شاء أن يطلق عليه فالطلاق بيد السيد ، فإن أذن في التزويج فالطلاق بيد العبد . وهذا قول أصحاب الرأي ، في كل مسألة يعتبر فيها الإذن . وروي ذلك في النكاح بغير ولي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن ابن سيرين ، والقاسم بن محمد ، والحسن بن صالح ، وإسحاق ، وأبي يوسف ، ومحمد ; لما روي { أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة ، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم } رواه أبو داود ، وابن ماجه . وروي { أن فتاة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أبي زوجني من ابن أخيه ، ليرفع بي خسيسته . قال : فجعل الأمر إليها . فقالت : قد أجزت ما صنع أبي ، ولكني أردت أن أعلم أن للنساء من الأمر شيئا . } رواه ابن ماجه والنسائي

                                                                                                                                            . وفي رواية ابن ماجه : { أردت أن يعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء } . ولأنه عقد يقف على الفسخ ، فوقف على الإجازة ، كالوصية

                                                                                                                                            ولنا ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : { أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها ، فنكاحها باطل . } وقال : { إذا نكح العبد بغير إذن سيده ، فنكاحه باطل } ، رواه أبو داود ، وابن ماجه . إلا أن أبا داود قال : هو موقوف على ابن عمر ولأنه عقد لا تثبت فيه أحكامه ; من الطلاق ، والخلع ، واللعان ، والتوارث ، وغيرها ، فلم ينعقد ، كنكاح المعتدة . فأما حديث المرأة التي خيرها النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرسل عن عكرمة ، رواه الناس كذلك ، ولم يذكروا ابن عباس

                                                                                                                                            قاله أبو داود . ثم يحتمل أن هذه المرأة هي التي قالت : زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته . فخيرها لتزويجها من غير كفئها ، وهذا يثبت الخيار ولا يبطل النكاح ، والوصية يتراخى فيها القبول ، وتجوز بعد الموت ، فهي معدول بها عن سائر التصرفات ، ولا تفريع على هذه الرواية لوضوحها . فأما على الرواية الأخرى ، فإن الشهادة تعتبر في العقد ; لأنها شرط له ، فيعتبر وجودها معه ، كالقبول ، ولا تعتبر في الإجازة ; لأنها ليست بعقد ، ولأنها إذا وجدت ، استند الملك إلى حالة العقد ، حتى لو كان في العقد نماء ملك من حين العقد ، [ ص: 23 ] لا من حين الإجازة ، وإن مات أحدهما قبل الإجازة ، لم يرثه الآخر ; لأنه مات قبل تمام العقد وصحته

                                                                                                                                            وفيه وجه آخر ، إن كان مما لو رفع إلى الحاكم أجازه ، ورثه الآخر ; لأنه عقد يلزمه إجازته ، فهو كالصحيح ، وإن كان مما يفسخه ، لم يرثه .

                                                                                                                                            ( 5182 ) فصل : ومتى تزوجت المرأة بغير إذن وليها ، أو الأمة بغير إذن سيدها ، فقد ذكره أصحابنا من جملة الصور التي فيها الروايتان . والصحيح عندي أنه لا يدخل فيها ; لتصريح النبي صلى الله عليه وسلم فيه بالبطلان . ولأن الإجازة إنما تكون لعقد صدر من أهله في محله . فأما ما لم يصدر من الأهل ، كالذي عقده المجنون أو الطفل ، فلا يقف على الإجازة ، وهذا عقد لم يصدر من أهله ; فإن المرأة ليست أهلا له ، بدليل أنه لو أذن لها فيه ، لم يصح منها ، وإذا لم يصح مع الإذن المقارن ، فلأن لا يصح بالإجازة المتأخرة أولى ، ولا تفريع على هذا

                                                                                                                                            فأما على القول الآخر ، فمتى تزوجت المرأة بغير إذن الولي ، فرفع إلى الحاكم ، لم يملك إجازته ، والأمر فيه إلى الولي ، فمتى رده بطل ; لأن من وقف الحكم على إجازته ، بطل برده ، كالمرأة إذا زوجت بغير إذنها . وفيه وجه آخر ، أنه إذا كان الزوج كفؤا ، أمر الحاكم الولي بإجازته ، فإن لم يفعل أجازه الحاكم ، لأنه لما امتنع من الإجازة صار عاضلا ، فانتقلت الولاية عنه إلى الحاكم ، كما في ابتداء العقد ، ومتى حصلت الإصابة قبل الإجازة ثم أجيز ، فالمهر واحد ; إما المسمى ، وإما مهر المثل إن لم يكن مسمى ; لأن الإجازة مستندة إلى حالة العقد ، فيثبت الحل والملك من حين العقد ، كما ذكرنا في البيع ، ولذلك لم يجب الحد

                                                                                                                                            ومتى تزوجت الأمة بغير إذن سيدها ، ثم خرجت من ملكه قبل الإجازة إلى من تحل له ، انفسخ النكاح ; لأنه قد طرأت استباحة صحيحة على موقوفة فأبطلتها ، ولأنها أقوى فأزالت الأضعف ، كما لو طرأ ملك يمينه على ملك نكاحه . وإن خرجت إلى من لا تحل له ، كالمرأة أو اثنين ، فكذلك أيضا ; لأن العقد إذا وقف على إجازة شخص ، لم يجز بإجازة غيره ، كما لو باع أمة غيره ثم باعها المالك ، فأجاز المشتري الثاني بيع الأجنبي . وفيه وجه آخر ، أنه يجوز بإجازة المالك الثاني ; لأنه يملك ابتداء العقد ، فملك إجازته كالأول ، ولا فرق بين أن يخرج ببيع أو إرث أو هبة أو غيره

                                                                                                                                            فأما إن أعتقها السيد ، احتمل أن يجوز النكاح ; لأنه إنما وقف لحق المولى ، فإذا أعتق سقط حقه ، فصح العقد ، واحتمل أن لا يجوز ; لأن إبطال حق المولى ليس بإجازة ، ولأن حق المولى إن بطل من الملك ، فلم يبطل من ولاية التزويج ، فإنه يليها بالولاء .

                                                                                                                                            ( 5183 ) فصل : إذا زوجت التي يعتبر إذنها بغير إذنها ، وقلنا : يقف على إجازتها . فإجازتها بالنطق ، أو ما يدل على الرضى من التمكين من الوطء ، أو المطالبة بالمهر والنفقة .

                                                                                                                                            ولا فرق في ذلك بين البكر والثيب ; لأن أدلة الرضى تقوم مقام النطق به ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لبريرة : { إن وطئك زوجك ، فلا خيار لك . } جعل تمكينها دليلا على إسقاط حقها والمطالبة بالمهر والنفقة ، والتمكين من الوطء دليل على الرضى ; لأن ذلك من خصائص العقد الصحيح ، فوجوده من المرأة دليل رضاها به .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية