الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال صاحب المنازل رحمه الله :

الشوق : هبوب القلب إلى غائب . وفي مذهب هذه الطائفة : علة الشوق عظيمة . فإن الشوق إنما يكون إلى الغائب . ومذهب هذه الطائفة : إنما قام على المشاهدة . ولهذه العلة لم ينطق القرآن باسمه .

قلت : هوصدر الباب بقوله تعالى من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت فكأنه جعل الرجاء شوقا بلسان الاعتبار لا بلسان التفسير . أو أن دلالة الرجاء على الشوق باللزوم ، لا بالتضمن ولا بالمطابقة .

قوله " هبوب القلب إلى غائب " يعني : سفره إليه ، وهويه إليه .

وأما العلة التي ذكرها في الشوق : فقد تقدم أن من الناس من جعل الشوق في حال اللقاء أكمل منه في حال المغيب . فعلى قول هؤلاء : لا علة فيه .

وأما من جعله سفر القلب إلى المحبوب في حال غيبته عنه ، فعلى قوله : يجيء كلام المصنف . ووجهه مفهوم .

وقوله " فإن مذهب هذه الطائفة " - الذي هو الفناء - يريد : أن الفناء إنما قام على المشاهدة . فإن بدايته - كما قرره هو - المحبة التي هي نهاية مقامات المريدين . والفناء إنما يكون مع المشاهدة . ومع المشاهدة لا عمل للشوق .

فيقال : هذا باطل من وجوه .

أحدها : أن المشاهدة لا تزيل الشوق بل تزيده ، كما تقدم .

الثاني : أنه لا مشاهدة أكمل من مشاهدة أهل الجنة . وهم إلى يوم المزيد - وهو يوم الجمعة - أشوق شيء ، كما في الحديث . وكذلك هم أشوق شيء إلى رؤية [ ص: 57 ] ربهم وسماع كلامه تعالى وهم في الجنة . فإن هذا إنما يحصل لهم في حال دون حال . كما في حديث ابن عمر المسند وغيره إن أعلى أهل الجنة منزلة : من ينظر إلى وجه ربه كل يوم مرتين .

ومعلوم قطعا : أن شوق هذا إلى الرؤية قبل حصولها أعظم شوق يقدر ، وحصول المشاهدة لأهل الجنة أتم منها لأهل الدنيا .

الثالث : أنه لا سبيل في الدنيا إلى مشاهدة تزيل الشوق ألبتة . ومن ادعى هذا فقد كذب وافترى . فإنه لم يحصل هذا لموسى بن عمران . كليم الرحمن عز وجل ، فضلا عمن دونه .

فما هذه المشاهدة التي مبنى مذهب هذه الطائفة عليها . بحيث لا يكون معها شوق ؟ أهي كمال المشاهدة عيانا وجهرة ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .

أم نوع من مشاهدة القلب لمعروفه ، مع اقترانها بالحجب الكثيرة التي لا يحصيها إلا الله ؟ فهل تمنع هذه المشاهدة الشوق إلى كمالها وتمامها ؟ وهل الأمر إلا بالعكس في العقل والفطرة والحقيقة . لأن من شاهد محبوبه من بعض الوجوه . كان شوقه إلى كمال مشاهدته أشد وأعظم . وتكون تلك المشاهدة الجزئية سببا لاشتياقه إلى كمالها وتمامها . فأين العلة في الشوق ؟ وأين المشاهدة المانعة من الشوق ؟

وهذا بحمد الله ظاهر . ومن نازع فيه كان مكابرا . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية