الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : ذوق الانقطاع طعم الاتصال . وذوق الهمة : طعم ، [ ص: 96 ] الجمع . وذوق المسامرة : طعم العيان .

الفرق بين هذه الدرجة ، والتي قبلها : أن تلك بقاء مع الأحوال . وهذه الدرجة : خروج وفناء عن الأحوال . فإن المتمكن في حال فنائه عن الأسباب - أعمالا كانت ، أو أحوالا - هو الذي يجد طعم الاتصال حقيقة . فإنه على حسب تجرده عن الالتفات إلى الأسباب يكون اتصاله . وعلى حسب التفاته إليها يكون انقطاعه . وكلما تمكن في جمع همه على الحق سبحانه ، وجد لذة الجمع عليه ، وذاق طعم القرب منه ، والأنس به .

فالانقطاع عند القوم : هو أنس القلب بغيره تعالى ، والالتفات إلى ما سواه . والاتصال : تجريد التعلق به وحده . والانقطاع عما سواه بالكلية .

إذا عرفت هذا . فلنرجع إلى تفسير كلامه .

فقوله " ذوق الانقطاع طعم الاتصال " استعارة ، وإلا فالذائق هو صاحب الانقطاع ، لا نفس الانقطاع . فإنه هو الذي ذاق الانقطاع والاتصال . وبالجملة : فالمراد أن المنقطع هو المحجوب ، والمتصل هو المشاهد بقلبه ، المكاشف بسره .

وأحسن من التعبير بالاتصال : التعبير بالقرب . فإنها العبارة السديدة التي ارتضاها الله ورسوله في هذا المقام .

وأما التعبير بالوصل والاتصال : فعبارة غير سديدة . يتشبث بها الزنديق الملحد ، والصديق الموحد . فالموحد يريد بالاتصال القرب . وبالانفصال والانقطاع البعد . والملحد يريد به الحلول تارة والاتحاد تارة .

حتى قال بعض هؤلاء : المنقطع ليس في الحقيقة منقطعا . بل لم يزل متصلا ، لكنه كان غائبا عن المشاهدة . فلما شاهد وجد نفسه لم يكن منقطعا . بل لم يزل متصلا .

قال : وليس قولنا " لم يزل متصلا " بسديد . فإن الاتصال لا يصح إلا بين اثنين . فلا المحجوب منقطعا . ولا المكاشف متصلا . وإنما هي عبارات للتقريب والتفهيم . وأنشد في ذلك :


ما بال عيسك لا يقر قرارها وإلام ظلك لا يني متنقلا     فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن
إلا إليك إذا بلغت المنزلا

.

[ ص: 97 ] وبإزاء هؤلاء طائفة غلظ حجابهم ، وكثفت أرواحهم عن هذا الشأن . فزعموا : أن القرب والبعد والأنس ليس له حقيقة تتعلق بالخالق سبحانه . وإنما ذلك القرب من داره وجنته بالطاعات ، وأنس القلب بما وعد عليها من الثواب ، والبعد ضد ذلك . لأن العبد لا يقرب من ربه . ولا يبعد عنه . ولا يأنس به . وصرحوا بأنه لا يريده ولا يحبه . فلا يصح تعلق الإرادة والمحبة به . فسار هؤلاء مغربين . وسار أولئك مشرقين . كما قيل :


سارت مشرقة وسرت مغربا     شتان بين مشرق ومغرب

.

ومصباح الموحد السالك على درب الرسول وطريقه يتوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس .

قوله " وذوق الهمة : طعم الجمع " جعل الهمة ذائقة : وإنما الذوق لصاحبها ، توسعا .

و " الهمة " قد عبر عنها الشيخ فيما تقدم بأنها " ما يملك الانبعاث إلى المقصود صرفا " أي حالة وصفية لها سطوة وملكة ، تحمل صاحبها على المقصود . وتبعثه عليه بعثا لا يخالطه غيره .

فالهمة عندهم : طلب الحق ، من غير التفات إلى غيره . والجمع شهود الفردانية التي تفنى فيها رسوم المشاهد . وهذا جمع في الربوبية .

وأعلى منه : الجمع في الألوهية وهو جمع قلبه وهمه وسره على محبوبه ومراضيه ومراده منه . فهو عكوف القلب بكليته على الله عز وجل . لا يلتفت عنه يمنة ولا يسرة . فإذا ذاقت الهمة طعم هذا الجمع : اتصل اشتياق صاحبها ، وتأججت نيران المحبة والطلب في قلبه . ويجد صبره عن محبوبه من أعظم كبائره . كما قيل :


والصبر يحمد في المواطن كلها     إلا عليك فإنه لا يحمد

وقد تقدم ذكر الأثر الإلهي " إني لا أنظر إلى كلام الحكيم . وإنما أنظر إلى همته " .

فلله همة نفس قطعت جميع الأكوان ، وسارت فما ألقت عصا السير إلا بين يدي الرحمن . تبارك وتعالى ، فسجدت بين يديه سجدة الشكر على الوصول إليه . فلم [ ص: 98 ] تزل ساجدة حتى قيل لها ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي .

فسبحان من فاوت بين الخلق في هممهم ، حتى ترى بين الهمتين أبعد مما بين المشرقين والمغربين . بل أبعد مما بين أسفل سافلين وأعلى عليين . وتلك مواهب العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

قوله " وذوق المسامرة : طعم العيان " مرادهم بالمسامرة : مناجاة القلب ربه ، وإن سكت اللسان ، فلذة استيلاء ذكره تعالى ، ومحبته على قلب العبد ، وحضوره بين يديه ، وأنسه به ، وقربه منه ، حتى يصير كأنه يخاطبه ويسامره ، ويعتذر إليه تارة ، ويتملقه تارة ، ويثني عليه تارة ، حتى يبقى القلب ناطقا بقوله : أنت الله الذي لا إله إلا أنت ، من غير تكلف له بذلك . بل يبقى هذا حالا له ومقاما . ولا ينكر وصول القوم إلى هذا . فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإذا بلغ في مقام الإحسان بحيث يكون كأنه يرى الله سبحانه . فهكذا مخاطبته ومناجاته له .

لكن الأولى العدول عن لفظ المسامرة إلى المناجاة فإنه اللفظ الذي اختاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا . وعبر به عن حال العبد بقوله إذا قام أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه وفي الحديث الآخر كلكم يناجي ربه . فلا يجهر بعضكم على بعض .

[ ص: 99 ] فلا تعدل عن ألفاظه - صلى الله عليه وسلم - . فإنها معصومة ، وصادرة عن معصوم ، والإجمال والإشكال في اصطلاحات القوم وأوضاعهم . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية