الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : صفاء اتصال . يدرج حظ العبودية في حق الربوبية . ويغرق نهايات الخبر في بدايات العيان ، ويطوي خسة التكاليف في عين الأزل .

في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير . يجبره حسن حال صاحبه وصدقه ، وتعظيمه لله ورسوله . ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له . ولا ريب أن بين أرباب الأحوال وبين أصحاب التمكن تفاوتا عظيما . وانظر إلى غلبة الحال على الكليم عليه السلام ، لما شاهد آثار التجلي الإلهي على الجبل ، كيف خر صعقا ؟ وصاحب التمكن - صلوات [ ص: 143 ] الله وسلامه عليه - لما أسري به ورأى ما رأى : لم يصعق ولم يخر ، بل ثبت فؤاده وبصره .

ومراد القوم بالاتصال والوصول : اتصال العبد بربه ، ووصوله إليه . لا بمعنى اتصال ذات العبد بذات الرب ، كما تتصل الذاتان إحداهما بالأخرى . ولا بمعنى انضمام إحدى الذاتين إلى الأخرى والتصاقها بها . وإنما مرادهم بالاتصال والوصول : إزالة النفس والخلق من طريق السير إلى الله . ولا تتوهم سوى ذلك . فإنه عين المحال .

فإن السالك لا يزال سائرا إلى الله تعالى حتى يموت . فلا ينقطع سيره إلا بالموت . فليس في هذه الحياة وصول يفرغ معه السر وينتهي . وليس ثم اتصال حسي بين ذات العبد وذات الرب . فالأول : تعطيل وإلحاد . والثاني : حلول واتحاد . وإنما حقيقة الأمر : تنحية النفس والخلق عن الطريق . فإن الوقوف معهما : هو الانقطاع . وتنحيتهما هو الاتصال .

وأما الملاحدة القائلون بوحدة الوجود ، فإنهم قالوا : العبد من أفعال الله ، وأفعاله من صفاته . وصفاته من ذاته . فأنتج لهم هذا التركيب : أن العبد من ذات الرب . تعالى الله وتقدس عما يقولون علوا كبيرا .

وموضع الغلط : أن العبد من مفعولات الرب تعالى ، لا من أفعاله القائمة بذاته . ومفعولاته آثار أفعاله . وأفعاله من صفاته القائمة بذاته ، فذاته سبحانه مستلزمة لصفاته وأفعاله . ومفعولاته منفصلة عنه ، تلك مخلوقة محدثة . والرب تعالى هو الخالق بذاته وصفاته وأفعاله .

فإياك ثم إياك والألفاظ المجملة المشتبهة التي وقع اصطلاح القوم عليها . فإنها أصل البلاء . وهي مورد الصديق والزنديق . فإذا سمع الضعيف المعرفة والعلم بالله تعالى لفظ " اتصال وانفصال ، ومسامرة ، ومكالمة ، وأنه لا وجود في الحقيقة إلا وجود الله ، وأن وجود الكائنات خيال ووهم ، وهو بمنزلة وجود الظل القائم بغيره " فاسمع منه ما يملأ الآذان من حلول واتحاد وشطحات .

والعارفون من القوم أطلقوا هذه الألفاظ ونحوها ، وأرادوا بها معاني صحيحة في أنفسها . فغلط الغالطون في فهم ما أرادوه . ونسبوهم إلى إلحادهم وكفرهم . واتخذوا كلماتهم المتشابهة ترسا له وجنة ، حتى قال قائلهم :

[ ص: 144 ]

ومنك بدا حب بعز تمازجا بنا ووصالا كنت أنت وصلته     ظهرت لمن أبقيت بعد فنائه
وكان بلا كون لأنك كنته

فيسمع الغر " التمازج والوصال " فيظن أنه سبحانه نفس كون العبد . فلا يشك أن هذا هو غاية التحقيق ، ونهاية الطريق . ثم لنرجع إلى شرح كلامه .

قوله : يدرج حظ العبودية في حق الربوبية .

المعنى الصحيح ، الذي يحمل عليه هذا الكلام : أن من تمكن في قلبه شهود الأسماء والصفات ، وصفا له علمه وحاله : اندرج عمله جميعه وأضعافه وأضعاف أضعافه في حق ربه تعالى ورآه في جنب حقه أقل من خردلة بالنسبة إلى جبال الدنيا . فسقط من قلبه اقتضاء حظه من المجازاة عليه . لاحتقاره له ، وقلته عنده ، وصغره في عينه .

قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا صالح عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد أن الله تعالى أوحى إلى داود : يا داود ، أنذر عبادي الصادقين . فلا يعجبن بأنفسهم ، ولا يتكلن على أعمالهم . فإنه ليس أحد من عبادي أنصبه للحساب ، وأقيم عليه عدلي إلا عذبته ، من غير أن أظلمه . وبشر عبادي الخطائين : أنه لا يتعاظمني ذنب أن أغفره وأتجاوز عنه .

وقال الإمام أحمد : وحدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا ثابت البناني قال : تعبد رجل سبعين سنة . وكان يقول في دعائه : رب اجزني بعملي . فمات فأدخل الجنة . فكان فيها سبعين عاما . فلما فرغ وقته ، قيل له : اخرج ، فقد استوفيت عملك ، فقلب أمره : أي شيء كان في الدنيا أوثق في نفسه ؟ فلم يجد شيئا أوثق في نفسه من دعاء الله ، والرغبة إليه . فأقبل يقول في دعائه : رب سمعتك - وأنا في الدنيا - وأنت تقيل العثرات . فأقل اليوم عثرتي . فترك في الجنة .

وقال أحمد بن حنبل : حدثنا هاشم حدثنا صالح عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد قال : قال موسى : إلهي ، كيف أشكرك ، وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمتك لا يجازيها عملي كله ؟ فأوحى الله تعالى إليه : ياموسى ، الآن شكرتني .

[ ص: 145 ] فهذا المعنى الصحيح من اندراج حظ العبودية في حق الربوبية .

وله محمل آخر صحيح أيضا ، وهو أن ذات العبد وصفاته وأفعاله وقواه وحركاته : كلها مفعولة للرب ، مملوكة له ، ليس يملك العبد منها شيئا . بل هو محض ملك الله . فهو المالك لها ، المنعم على عبده بإعطائه إياها . فالمال ماله . والعبد عبده . والخدمة مستحقة عليه بحق الربوبية . وهي من فضل الله عليه . فالفضل كله لله ، ومن الله ، وبالله .

قوله " ويعرف نهايات الخبر في بدايات العيان " الخبر : متعلق الغيب . والعيان متعلق الشهادة . وهو إدراك عين البصيرة لصحة الخبر ، وثبوت مخبره .

ومراده ب " بدايات العيان " أوائل الكشف الحقيقي الذي يدخل منه إلى مقام الفناء . ومقصوده : أن يرى الشاهد ما أخبر به الصادق بقلبه عيانا . قال الله تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق وقال تعالى أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى فقد قال : أفمن رأى بعين قلبه أن ما أنزل الله إلى رسوله هو الحق كمن هو أعمى لا يبصر ذلك ؟ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ولا ريب أن تصديق الخبر واليقين به يقوي القلب ، حتى يصير الغيب بمنزلة المشاهد بالعين . فصاحب هذا المقام : كأنه يرى ربه سبحانه فوق سماواته على عرشه ، مطلعا على عباده ناظرا إليهم ، يسمع كلامهم . ويرى ظواهرهم وبواطنهم .

وكأنه يسمعه وهو يتكلم بالوحي . ويكلم به عبده جبريل ، ويأمره وينهاه بما يريد ، ويدبر أمر المملكة . وأملاكه صاعدة إليه بالأمر ، نازلة من عنده به .

وكأنه يشاهده ، وهو يرضى ويغضب ، ويحب ويبغض ، ويعطي ويمنع ، ويضحك ويفرح ، ويثني على أوليائه بين ملائكته ، ويذم أعداءه .

وكأنه يشاهده ويشاهد يديه الكريمتين ، وقد قبضت إحداهما السماوات السبع ، والأخرى الأرضين السبع . وقد طوى السماوات السبع بيمينه ، كما يطوى السجل على أسطر الكتاب .

وكأنه يشاهده ، وقد جاء لفصل القضاء بين عباده . فأشرقت الأرض بنوره . [ ص: 146 ] ونادى - وهو مستو على عرشه - بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب " وعزتي وجلالي : " لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم " .

وكأنه يسمع نداءه لآدم " يا آدم ، قم فابعث بعث النار " بإذنه الآن ، وكذلك نداؤه لأهل الموقف ماذا أجبتم المرسلين وماذا كنتم تعبدون ؟

وبالجملة : فيشاهد بقلبه ربا عرفت به الرسل ، كما عرفت به الكتب ، ودينا دعت إليه الرسل . وحقائق أخبرت بها الرسل . فقام شاهد ذلك بقلبه كما قام شاهد ما أخبر به أهل التواتر - وإن لم يره - من البلاد والوقائع . فهذا إيمانه يجري مجرى العيان ، وإيمان غيره فمحض تقليد العميان .

قوله " ويطوي خسة التكاليف " ليت الشيخ عبر عن هذه اللفظة بغيرها . فوالله إنها لأقبح من شوكة في العين ، وشجى في الحلق . وحاشا التكاليف أن توصف بخسة ، أو تلحقها خسة . وإنما هي قرة عين ، وسرور قلب ، وحياة روح . صدر التكليف بها عن حكيم حميد . فهي أشرف ما وصل إلى العبد من ربه ، وثوابه عليها أشرف ما أعطاه الله للعبد .

[ ص: 147 ] نعم لو قال : يطوي ثقل التكاليف ويخفف أعباءها ونحو ذلك . فلعله كان أولى ، ولولا مقامه في الإيمان والمعرفة والقيام بالأوامر لكنا نسيء به الظن .

والذي يحتمل أن يصرف كلامه إليه وجهان :

أحدهما : أن الصفاء - المذكور في هذه الدرجة - لما انطوت في حكمه الوسائط والأسباب . واندرج فيه حظ العبودية في حق الربوبية : انطوت فيه رؤية كون العبادة تكليفا . فإن رؤيتها تكليفا خسة من الرائي . لأنه رآها بعين أنفته وقيامه بها . ولم يرها بعين الحقيقة . فإنه لم يصل إلى مقام " فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي " ولو وصل إلى ذلك لرآها بعين الحقيقة ، ولا خسة فيها هناك ألبتة . فإن نظره قد تعدى من قيامه بها إلى قيامها بالقيوم الذي قام به كل شيء . فكان لها وجهان .

أحدهما : هي به خسيسة . وهو وجه قيامها بالعبد ، وصدورها منه .

والثاني : هي به شريفة . وهو وجه كونها بالرب تعالى وأوليته ، أمرا وتكوينا وإعانة . فالصفاء يطويها من ذلك الوجه خاصة .

والمعنى الثاني ، الذي يحتمله كلامه : أن يكون مراده : أن الصفاء يشهده عين الأزل ، وسبق الرب تعالى ، وأوليته لكل شيء . فتنطوي في هذا المشهد أعماله التي عملها . ويراها خسيسة جدا بالنسبة إلى عين الأزل . فكأنه قال : تنطوي أعماله ، وتصير - بالنسبة إلى هذه العين - خسيسة جدا لا تذكر . بل تكون في عين الأزل هباء منثورا ، لا حاصل لها .

فإن الوقت الذي هو ظرف التكليف يتلاشى جدا بالنسبة إلى الأزل . وهو وقت خسيس حقير ، حتى كأنه لا حاصل له . ولا نسبة له إلى الأزل والأبد في مقدار الأعمال الواقعة فيه . وهي يسيرة بالنسبة إلى مجموع ذلك الوقت الذي هو يسير جدا . بالنسبة إلى مجموع الزمان الذي هو يسير جدا . بالنسبة إلى عين الأزل .

فهذا أقرب ما يحمل عليه كلامه مع قلقه . وقد اعتراه فيه سوء تعبير . وكأنه أطلق عليها الخسة لقلتها وخفتها . بالنسبة إلى عظمة المكلف بها سبحانه . وما يستحقه . والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية