الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 163 ] لنا : قوله تعالى : قل هاتوا برهانكم والدعوى نفيه ، ولأن كلا من الخصمين يمكنه التعبير عن دعواه بعبارة نافية ، كقول مدعي حدوث العالم : ليس بقديم ، وقدمه ليس بمحدث ، فيسقط الدليل عنهما فتعم الجهالة ويقع الخبط ويضيع الحق ، وطريق الدلالة على النفي بيان لزوم المحال من الإثبات ونحوه .

                قالوا : النفي أصلي الوجود ، فاستغني عن الدليل ، ولأن المدعى عليه الدين لا يلزمه دليل .

                قلنا : الاستغناء عن الدليل لا يسقطه ، وتعذره ممنوع ، وانتفاء الدليل عن المدين ممنوع ، إذ اليمين دليل ، وإن سلم فلتعذره ، إذ الشهادة على النفي باطلة لتعذرها ، ولأن ثبوت يده على ملكه أغناه عن الدليل ، والدليل على نفي الحكم الشرعي إجماعي كنفي صلاة الضحى ، أو نصي كنفي زكاة الحلي ، أو قياسي كإلحاق الخضراوات بالرمان في نفي وجوب الزكاة ، وعلى نفي العقلي ما سبق .

                التالي السابق


                قوله : " لنا : " ، أي : على أن نافي الحكم يلزمه الدليل وجهان :

                أحدهما : أن الله - سبحانه وتعالى - ألزم النافي الدليل في مقام المناظرة ، فلو لم يلزمه ، لما ألزمه إياه ؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - عدل في مناظرته ، وسائر أفعاله .

                وبيان ذلك في قوله - سبحانه وتعالى - حكاية عن اليهود والنصارى : [ ص: 164 ] وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى [ البقرة : 111 ] ، فهذه دعوى نافية ، فأجاب الله - سبحانه وتعالى - بقوله - عز وجل - تلك أمانيهم [ البقرة : 111 ] ، ثم أمر نبيه - عليه السلام - بمطالبتهم بدليل دعواهم النافية ، فقال - سبحانه وتعالى : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ البقرة : 111 ] ، أي : أقيموا الدليل على أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، وهو إلزام بالدليل على دعوى النفي ، وهو المطلوب .

                الوجه الثاني : أن نافي الحكم لو لم يلزمه الدليل ، لضاع الحق بين الخصمين ، وتعطل ، لكن تعطل الحق باطل ، فالمفضي إليه باطل ، إنما قلنا : إنه لو لم يلزمه لتعطل الحق ، " لأن كلا من الخصمين يمكنه " أن يعبر " عن دعواه بعبارة نافية " فيقول المدعي لحدوث العالم : " ليس بقديم " ويقول المدعي لقدمه : " ليس بمحدث " . وحينئذ " يسقط الدليل عنهما " لأن كل واحد منهما ناف للحكم ، وإذا سقط الدليل عنهما ضاع الحق ، فلم يعلم في أي طرف هو ، إذ لا يظهر الحق إلا بدليل . وحينئذ " تعم الجهالة ، ويقع الخبط " في الأحكام .

                وإنما قلنا : إن تعطل الحق باطل ؛ لأن الحق لو تعطل لقام الباطل ، إذ هما ضدان ، أو نقيضان ، لا بد من أحدهما ، وقيام الباطل وظهوره باطل ، فثبت أن سقوط الدليل عن النافي باطل .

                [ ص: 165 ] قوله : " وطريق الدلالة على النفي بيان لزوم المحال من الإثبات ونحوه " أي : إذا ثبت أن النافي يلزمه الدليل ، فطريق الدلالة على نفي الحكم ما ذكرناه ، وهو بيان لزوم المحال من إثباته ؛ لأن ما لزم منه المحال يكون محالا ، فإذا لزم المحال من النفي كان النفي محالا ، فيكون الإثبات حقا ، إذ لا واسطة بينهما .

                مثل أن يقول : العالم ليس بقديم ؛ لأنه لو كان قديما للزم تأثير إرادة الصانع وقدرته فيه ، لكن تأثير القدرة والإرادة في القديم محال ؛ لأنه يصير بذلك أثرا ، وكل أثر محدث ، فيلزم أن ينقلب القديم محدثا ، وهو محال ، فهذا المحال قد لزم من إثبات قدم العالم ، فيكون محالا ، وإذا استحال القدم ، تعين الحدوث ، إذ لا واسطة بينهما ، وقد يستدل على نفي الحكم بغير هذه الطريق ، على حسب ما يتفق للمستدل ، ويسنح لخاطره من ذلك .

                قوله : " قالوا : " إلى آخره ، أي : احتج النافون لوجوب الدليل على النافي بوجهين :

                أحدهما : أن " النفي أصلي الوجود " يعني أنه ثابت بالأصل ، إذ العالم عبارة عما سوى الله - سبحانه وتعالى ، فكل شيء يستدل على نفيه ، فهو داخل في جملة العالم ، والأصل في العالم العدم والانتفاء ، وإذا كان العدم والانتفاء ثابتا بحق الأصل ، استغني عن إقامة الدليل .

                الوجه الثاني : أن " المدعى عليه الدين " أي : من ادعي عليه دين " لا [ ص: 166 ] يلزمه دليل " براءة ذمته ؛ لثبوتها بحق الأصل ، وإنما تلزم البينة المدعي ؛ لدعواه خلاف الأصل ، وهو ثبوت الحق بعد انتفائه ، وهذان الوجهان مرجعهما أصل واحد ، وهو استغناء ما ثبت بحق الأصل عن الدليل .

                قوله : " قلنا : " إلى آخره ، أي : الجواب عما ذكرتموه : أن " الاستغناء عن الدليل لا يسقطه " إذا قام دليل وجوبه ، وقد بيناه بما سبق ، " وتعذره ممنوع " . أي : إن ادعى مدع أن الدليل متعذر على النفي مطلقا ، أو في بعض الصور ، منعنا تعذره مطلقا بما قدمناه من إمكانه ببيان لزوم المحال من الإثبات ، وأما " انتفاء الدليل عن " المديون ، فممنوع أيضا ، إذ لا نسلم أن منكر الدين لا دليل عليه ، بل عليه دليل ، وهو اليمين ، وهي وإن قصرت في القوة عن البينة ، لا تخرج عن كونها دليلا ، إذ الأدلة منها القوي والضعيف ، وإن سلمنا أن اليمين ليست دليلا ، فالجواب من وجهين :

                أحدهما : أن الدليل إنما سقط عن المدعى عليه هاهنا ؛ لأنا لو كلفناه دليلا ، لكان دليله البينة ، كما في جانب المدعي ، لكن البينة إنما تصح شهادتها بالإثبات ، فلو أوجبناها في جانب المدعى عليه ، لكانت شهادتها له بالنفي وهو أنه لا حق للمدعي قبله ، لكن " الشهادة على النفي باطلة " ؛ لجواز ثبوت الحق في حال نومها ، أو غفلتها ، أو غيبتها وضبطها للزمان ، بحيث تحقق أن الحق لم يثبت على المدعى عليه في جزء من أجزائه متعذر ، فسقط الدليل عن المدعى عليه هاهنا لتعذره ، ولا يلزم من سقوط الدليل في [ ص: 167 ] موضع خاص لمانع خاص سقوطه في كل موضع .

                الوجه الثاني : وهو مختص بما إذا كان للمدعى عليه يد ، كما لو ادعى زيد عينا في يد عمرو ، فأنكره عمرو ، فعمرو لا دليل عليه ؛ لأن ثبوت يده على ملكه قام مقام الدليل ، فأغناه عنه .



                قوله : " والدليل على نفي الحكم الشرعي إجماعي " إلى آخره . هذا بيان أنواع مدارك نفي الحكم ، أي : حيث قد أثبتنا أن نافي الحكم يلزمه الدليل مطلقا ، فالحكم إما شرعي أو عقلي .

                أما الحكم الشرعي ، فقد يكون مدرك نفيه الإجماع ، " كنفي " وجوب " صلاة الضحى " ، فإنها بالإجماع لا تجب ، لكنها مستحبة ، وقد يكون مدركه النص ، " كنفي زكاة الحلي " والخيل والحمير بقوله - عليه السلام - : ليس في الحلي زكاة و ليس على الرجل في عبده ولا فرسه صدقة و ليس في الكسعة ولا في الجبهة صدقة والكسعة : الحمير ، والجبهة : [ ص: 168 ] الخيل ، وقد يكون مدركه القياس ، كقولنا : لا زكاة في الخضراوات ، بالقياس على الرمان وغيره مما لا زكاة فيه .

                وأما الحكم العقلي ، فالدليل على نفيه " ما سبق " يعني من لزوم المحال من إثباته ، ودليل التلازم نحو : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء : 22 ] ، لكنهما ما فسدتا ، فلزم أن لا إله فيهما إلا الله ؛ لأن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم ، وفساد السماوات والأرض لازم لوجود إلهين فأكثر ، فانتفاء الفساد فيهما يدل على انتفاء آلهة غير الله فيهما ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .




                الخدمات العلمية