الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 12 ] قال ( ومن دعي إلى وليمة أو طعام فوجد ثمة لعبا أو غناء فلا بأس بأن يقعد ويأكل ) قال أبو حنيفة رحمه الله : ابتليت بهذا مرة فصبرت . وهذا لأن إجابة الدعوة سنة . قال عليه الصلاة والسلام { من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم } فلا يتركها لما اقترن بها من البدعة من غيره ، كصلاة الجنازة واجبة الإقامة وإن حضرتها نياحة ، فإن قدر على المنع منعهم ، وإن لم يقدر يصبر ، وهذا إذا لم يكن مقتدى به ، فإن كان مقتدى ولم يقدر على منعهم يخرج ولا يقعد ; لأن في ذلك شين الدين وفتح باب المعصية على المسلمين ، والمحكي عن أبي حنيفة رحمه الله في الكتاب كان قبل أن يصير مقتدى به ، ولو كان ذلك على المائدة لا ينبغي أن يقعد ، [ ص: 13 - 14 ] وإن لم يكن مقتدى لقوله تعالى { فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } وهذا كله بعد الحضور ، ولو علم قبل الحضور لا يحضر ; لأنه لم يلزمه حق الدعوة ، بخلاف ما إذا هجم عليه ; لأنه قد لزمه ، ودلت المسألة على أن الملاهي كلها حرام حتى التغني بضرب القضيب .

[ ص: 15 - 16 ] وكذا قول أبي حنيفة رحمه الله ابتليت ، لأن الابتلاء بالمحرم يكون .

التالي السابق


( قوله وهذا لأن إجابة الدعوى سنة . قال عليه الصلاة والسلام { من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم } فلا يتركها لما اقترن بها من البدعة من غيره ، كصلاة الجنازة واجبة الإقامة ، وإن حضرتها نياحة ) قيل عليه أنه قياس السنة على الفرض وهو غير مستقيم ، فإنه لا يلزم من تحمل المحذور لإقامة الفرض تحمله لإقامة السنة . وأجيب بأنها سنة في قوة الواجب لورود الوعيد على تاركها ، قال صلى الله عليه وسلم {من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم } كذا في العناية وعامة الشروح . أقول : الجواب منظور فيه ، لأنهم إن أرادوا بقولهم إنها سنة في قوة الواجب أنها مثل الواجب في الأحكام كما يفصح عنه قول صاحبي النهاية والكفاية فيثبت الحكم فيها على وفاق ما يثبت في الواجب ، فهو مشكل على قواعد علم الأصول ، إذ قد تقرر فيه كون السنة قسيما للواجب ومغايرة له في الأحكام حيث صرحوا فيه بأن الواجب مما كان فعله أولى من تركه مع منع تركه ، والسنة مما كان [ ص: 13 ] فعله أولى من تركه بلا منع تركه ، وأن تارك الواجب يستحق العقوبة بالنار وتارك السنة لا يستحقها بل يستحق حرمان الشفاعة فكيف يتصور الاشتراك في الأحكام ، وإن أرادوا بقولهم إنها سنة في قوة الواجب مجرد بيان تأكد سنيتها فهو لا يجدي نفعا في دفع السؤال . إذ لا يلزم من تحمل المحذور لإقامة الواجب تحمله لإقامة السنة ، وإن كانت مؤكدة تأكدا تاما لظهور التفاوت بينهما في الحقيقة والأحكام فلا يتم القياس على أن صلاة الجنازة فرض لا واجب محض ، فعلى تقدير أن يكون إجابة الدعوة في حكم الواجب بل نفس الواجب لا يندفع السؤال أيضا ، إذ لا يلزم من تحمل المحذور لإقامة الفرض تحمله لإقامة الواجب لثبوت الفرض بدليل قطعي دون الواجب ، ولهذا يكفر جاحد الأول دون الثاني فلا وجه للقياس . وأجاب صاحب العناية عن السؤال المذكور بوجه آخر حيث قال : ويجوز أن يقال وجه التشبيه اقتران العبادة بالبدعة مع قطع النظر عن صفة تلك العبادة ا هـ .

أقول : ليس هذا بشيء ; لأن تشبيه إجابة الدعوى بصلاة الجنازة في مجرد الاقتران بالبدعة مع ظهور الفرق بينهما في القوة والضعف لا يفيد شيئا فقهيا ، فيلزم أن يكون قول المصنف كصلاة الجنازة واجبة الإقامة وإن حضرتها نياحة كلاما زائدا خارجا عن صنعة الفقه وحاشى له .

ثم أقول : يمكن أن يجاب عن ذلك السؤال بوجه آخر ، وهو أن إجابة الدعوة وإن كانت سنة عندنا ابتداء إلا أنها تنقلب إلى الواجب بقاء : أي بعد الحضور إلى محل حيث يلزمه حق الدعوة بالتزامه إجابتها كما أشار إليه المصنف فيما بعد ، فيصير هذا نظير الصلاة النافلة فإنها تنقلب إلى الواجب بل إلى الفرض بالتزام إقامتها بالشروع فيها كما تقرر في محله ، ولذلك لو علم المدعو البدعة قبل الحضور لزمه ترك إجابة الدعوة كما سيجيء ، فيكون قوله كصلاة الجنازة واجبة الإقامة وإن حضرتها نياحة قياس الواجب على الواجب في المآل فيندفع الإشكال . ثم إن صاحب الإصلاح والإيضاح رد الدليل المذكور في الكتاب حيث قال لا ; لأن إجابة الدعوة سنة فلا تترك بسبب بدعة كصلاة الجنازة يحضرها النياحة ; لأنه إن أراد مطلق الدعوة فلا نسلم أن إجابتها سنة ، وإن أراد الدعوة على وجه السنة فلا يتم التقريب ، بل لأن حق الدعوة يلزمه بعد الحضور لا قبله ، إلى هاهنا كلامه . وقصد بعض المتأخرين الجواب عن ذلك فقال : ثم المراد بالإجابة المسنونة في قوله ; لأن إجابة الدعوة سنة ما يعلم الإجابة ابتداء وانتهاء والإجابة انتهاء فقط حتى يتم تقريب الدليل ; لأن فرض المسألة في دعوة اقترنت بلهو ، وفيها لا تسن الإجابة ابتداء كما سيجيء ، فإذا عرف المدعو ذلك قبل الإجابة لا يجب عليه الإجابة أصلا .

وأما إذا هجم عليه ولم يعرفه كما هو المفروض بدليل قوله فوجد ثمة يجب عليه الجلوس والصبر والأكل ، وهذا إجابة انتهاء ، فبهذا ينطبق الدليل على المدعي فلا يرد عليه ما قيل إن أراد بقوله : لأن إجابة الدعوة سنة أن إجابة مطلق الدعوة سنة فلا نسلم ذلك لما سيجيء أن الدعوة إذا قارنت شيئا من اللهو لم يلزمه حق الدعوة ، وإن أراد أن إجابة الدعوة على وجه السنة كذلك فلا يتم التقريب . ووجه الاندفاع ظاهر ; لأنه وإن لم يلزمه حق الدعوة ابتداء لكن يلزمه انتهاء إذا هجم فتأمل إلى هنا كلام ذلك البعض .

أقول : لا يذهب على ذي فطانة أن هذا كلام خال عن التحصيل ابتداء وانتهاء . أما خلوه عن التحصيل ابتداء فلأنه لا معنى لإجابة الدعوة انتهاء فقط ، إذ لا يتصور تحقق إجابة الدعوة انتهاء بدون تحققها ابتداء ; لأن عدم تحقق إجابة الدعوة من المدعو ابتداء إنما يصور بعدم مجيئه إلى محل الدعوة أصلا لأجل تلك الدعوة ، فإذن كيف يتصور منه إجابة تلك الدعوة انتهاء ؟ وإجابتها انتهاء فرع مجيئه إلى محل الدعوة أولا وليس فليست ، وإنما الذي يتصور وقوعه عكس ذلك ، وهو الإجابة ابتداء فقط ، كما إذا دعي إلى وليمة أو غيرها فأجاب وذهب إلى محل الدعوة فوجد ثمة لعبا أو غناء فلم يقعد ولم يأكل فإنه يوجد هناك الإجابة ابتداء لا انتهاء كما لا يخفى ، وصورتها الشرعية فيما إذا كان المدعو مقتدى ولم يقدر على منعهم كما سيجيء في الكتاب والعجب أن ذلك القائل ذكر الإجابة ابتداء وانتهاء والإجابة انتهاء فقط ، ولم يذكر الإجابة ابتداء فقط ، وكتب تحت قوله والإجابة انتهاء فقط ، أما عكسه وهو القسم الثالث هاهنا فلا يتصور وقوعه ا هـ .

فزعم ما هو متصور [ ص: 14 ] الوقوع غير متصور الوقوع وبالعكس ، ولم يدر أن تحقق انتهاء الشيء في الخارج يستلزم تحقق ابتدائه فيه دون العكس كما لا يخفى . وأما خلو كلامه عن التحصيل انتهاء فلأن الظاهر من قوله ووجه الاندفاع ظاهر ; لأنه وإن لم يلزمه حق الدعوة ابتداء لكن يلزمه انتهاء إذا هجم أنه اختار كون المراد أن إجابة مطلق الدعوة سنة ، لأن عدم لزوم حق الدعوة ابتداء لكن يلزمه انتهاء كان من متفرعات منع ذلك ، ولكن ما ذكره في وجه الاندفاع ليس بسديد ; لأنه إذا علم المدعو قبل الحضور أن الدعوة قارنت شيئا من البدعة لم يلزمه الإجابة أصلا كما سيجيء في الكتاب ، وذكره ذلك القائل أيضا في أثناء كلامه ، ويكفي لسند منع أن إجابة مطلق الدعوة سنة هذه الصورة فقط ، فلا وجه لقوله ; لأنه وإن لم يلزمه حق الدعوة ابتداء لكن يلزمه انتهاء إذا هجم ; لأن لزوم حق الدعوة للمدعو انتهاء إذا هجم عليه إنما يكون بأن علم ذلك بعد الحضور ، وهو صورة أخرى غير الصورة الأولى التي هي السند للمنع المذكور ، ولا شك أنه لا يلزمه حق الدعوة في الصورة الأولى لا ابتداء ولا انتهاء ، فكيف يكون ما ذكره وجها للاندفاع .

والصواب في الجواب عما ذكره صاحب الإصلاح والإيضاح اختيار الشق الثاني من ترديده ، وهو كون المراد أن إجابة الدعوة على وجه السنية فتكون الإجابة سنة وبيان تمام تقريب الدليل بأن الدعوة على ثلاثة أوجه : الأول إن دعي إلى وليمة أو طعام ولم يكن ثمة شيء من البدع أصلا .

والثاني إن دعي إلى ذلك ويذكر حين الدعوة أن ثمة شيئا من البدع ولم يعلمه المدعو قبل الحضور ولكن هجم عليه ،

والثالث إن دعي إلى ذلك وذكر أن ثمة شيئا من البدع فعلمه المدعو قبل الحضور . ففي الوجهين الأولين كانت الدعوة على وجه السنة فتكون الإجابة سنة . وفي الوجه الثالث لم تكن الدعوة على وجه السنة فلا تكون الإجابة لازمة للمدعو أصلا ، والمسألة التي نحن فيها من الوجه الثاني من تلك الأوجه فيتمشى فيها الدليل المذكور فيتم التقريب تأمل تقف .

( قوله وهذا كله بعد الحضور ولو علم قبل الحضور لا يحضر ) أقول : لقائل أن يقول : الحديث المذكور يعم ما بعد الحضور وما قبله ، إذ قد تقرر في علم الأصول أن المعرف باللام إذا لم تكن للعهد الخارجي فهو للاستغراق ، والدعوة في قوله عليه الصلاة والسلام { من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم } معرفة باللام ، ولم يظهر هناك معهود خارجي فهي للاستغراق فتعم كل دعوة ، والجواب أنه إن كان عاما من حيث اللفظ فهو مخصوص بالنصوص الدالة على وجوب الاجتناب عن اقتراب تلك البدع بلا ضرورة توفيقا بين النصوص مهما أمكن ، وقد دعت الضرورة إلى الصبر فيما إذا علم بعد الحضور ; لأنه قد لزمه حق الدعوة ، بخلاف ما إذا علم قبل الحضور إذ لم يلزمه ذلك هناك كما بينه المصنف هناك فافترقا .

( قوله ودلت المسألة على أن الملاهي كلها حرام حتى التغني بضرب القضيب ) ; لأن محمدا رحمه الله أطلق اسم اللعب والغناء بقوله فوجد ثمة اللعب والغناء وهو اللهو حرام ، كذا في العناية ، وهذا القدر من التعليل كاف في بيان دلالة المسألة على أن الملاهي كلها حرام هو الصحيح المختار عندي ، وقد زاد جمهور الشراح على ذلك كلاما آخر حيث قالوا : فاللعب وهو اللهو حرام [ ص: 15 ] بالنص ، قال النبي صلى الله عليه وسلم { لهو المؤمن باطل إلا في ثلاث : تأديبه فرسه وفي رواية ملاعبته بفرسه ، ورميه عن قوسه ، وملاعبته مع أهله } وهذا الذي ذكره محمد ليس من هذه الثلاث فكان باطلا انتهى .

أقول : فيه كلام ، أما أولا فلأن زيادة قولهم بالنص في قولهم فاللعب وهو اللهو حرام بالنص يدل على أن الدليل على حرمة اللهو هو النص ، والكلام في دلالة المسألة على ذلك فلا يتم التقريب ، بخلاف ما إذا لم يؤت بتلك الزيادة إذ يكون قولهم فاللعب وهو اللهو حرام إذ ذاك متفرعا على ما قبله وهو إطلاق محمد اسم اللعب والغناء بقوله فوجد ثمة اللعب والغناء ، فيصير حاصل التعليل أن محمدا لما أطلق اسم اللعب والغناء في هاتيك المسألة ولم يقيده بنوع علم أن اللعب الذي هو اللهو حرام مطلقا ، وهو جيد مفيد للمدعي .

وأما ثانيا فلأن قولهم وهذا الذي ذكره محمد ليس من هذه الثلاث فكان باطلا ينافي قولهم في أول التعليل ; لأن محمدا أطلق اسم اللعب والغناء ، إذ على تقدير أن لا يكون ما ذكره محمد في هاتيك المسألة من هذه الثلاث يلزم أن لا يكون اسم اللعب فيها مطلقا ، بل أن يكون مقيدا بغير هذه الثلاث . لا يقال : مرادهم بإطلاق محمد اسم اللعب إطلاقه بالنسبة إلى ما عدا هذه الثلاث لا بالنسبة إلى كل لعب فلا تنافي . لأنا نقول : لا يساعده لفظ محمد لأنهم إنما أخذوا إطلاق اسم اللعب من قوله فوجد ثمة اللعب والغناء .

ولا يخفى أن قوله المذكور إنما يقتضي الإطلاق بالنسبة إلى جنس اللعب لا بالنسبة إلى بعض منه وهو ما عدا الثلاث المذكورة . ثم أقول : بقي شيء في أصل كلام المصنف ، وهو أن لو اعتبرت دلالة المسألة المذكورة على أن الملاهي كلها حرام وجاز العمل بهذه الدلالة لزم القول بحرمة الصور الثلاث المستثناة في الحديث أيضا ولم يقل بها أحد ، اللهم إلا أن يقال : تلك الثلاث مستثناة في كلام محمد تقديرا بناء على كونها مستثناة في الحديث صريحا ، ويجعل شهرة الحديث قرينة على ذلك . ثم إن صاحب العناية قال : لا يقال الحياة الدنيا لعب ولهو لقوله تعالى { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } والحياة الدنيا ليست بحرام ; لأن الحاصل من هذا القياس بعض اللهو واللعب ليس بحرام ، وهو ما استثناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { لهو المؤمن باطل إلا في ثلاث : تأديبه فرسه ، ورميه عن قوسه ، وملاعبته مع أهله } انتهى كلامه .

أقول : أراد بالقياس في قوله : لأن الحاصل من هذا القياس بعض اللهو واللعب ليس بحرام القياس المنطقي الذي ذكر في السؤال على الشكل الثالث من الأشكال الأربعة بقسمة الاقتراني وبالحاصل منه نتيجة ، وأشار بقوله بعض اللهو واللعب إلى جزئية تلك النتيجة بناء على أن الشكل الثالث لا ينتج إلا جزئية كما تقرر في موضعه فبطل قول بعض الفضلاء هنا : لكن القياس الأول يقتضي الكلية كما لا يخفى ، فكأنه غفل عن كون القياس المذكور على الشكل الثالث أو عن كون نتيجة الشكل الثالث جزئية لا غير ، وقال بعض المتأخرين هنا : إن شرط إنتاج الشكل الثالث كلية إحدى مقدمتيه وهي هاهنا منتفية انتهى .

أقول : ليس هذا أيضا بصحيح ، إذ الظاهر أن كلتا مقدمتي القياس المذكور كليتان صغراهما موجبة كلية وكبراهما سالبة كلية ، وإن حمل السلب في الثانية على رفع الإيجاب الكلي دون السلب الكلي فكلية الأولى مقررة ، وأداة صور الكلية هي اللام الاستغراقية الداخلة على الحياة الدنيا ، وليست أداة صورها بمنحصرة في لفظة كل ، بل كل ما يدل على الكلية من الألفاظ فهو أداة صورها كما صرحوا به . ثم أقول : في الجواب الذي ذكره صاحب العناية نظر ، فإن قوله ; لأن الحاصل من هذا القياس بعض اللهو واللعب ليس بحرام جيد .

وأما قوله وهو ما استثناه النبي عليه الصلاة والسلام فلا ; لأن القياس المذكور إنما ينتج أن بعض اللهو واللعب وهو الحياة الدنيا ليس بحرام ، فإن الذي كان حدا أوسط في ذلك القياس هو الحياة الدنيا ، فهي المراد بالبعض في النتيجة ، ونظير هذا ما إذا قلنا كل إنسان حيوان ولا شيء من الإنسان بفرس ، فإنه ينتج أن بعض الحيوان الذي هو الإنسان ليس بفرس لا أن بعضه أي بعضه كان ليس بفرس ، وإلا لم يكن للحد الأوسط تأثير ، ودخل في النتيجة وليس كذلك قطعا ; وهذا كله غير خاف على من له دربة بعلم الميزان . [ ص: 16 ] فإذا كانت النتيجة في القياس المذكور أن بعض اللهو واللعب الذي هو الحياة الدنيا ليس بحرام فلا معنى لتخصيصه بالصور الثلاث المستثناة في الحديث ; لأن ما لا يحرم من أمور الحياة الدنيا كثير لا يحصى فما الوجه للتخصيص على أن ما ذكره من الجواب لا يحسم مادة السؤال لإمكان أن يورد السؤال بصورة القياس الاستثنائي . ويقال : لو كانت الملاهي كلها حراما لكانت الحياة الدنيا أيضا حراما لأنها لعب ولهو ، لقوله تعالى { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } ولكن الحياة الدنيا ليست بحرام ، ينتج أن الملاهي كلها ليست بحرام ، ولا شك أن الجواب المذكور لا يتمشى حينئذ .

فالصواب في الجواب أن يقال ليس المراد بقوله تعالى { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } أنها لعب ولهو حقيقة بل المراد والله أعلم أنها كلعب ولهو على طريق التشبيه البليغ : يعني أنها كاللعب واللهو في سرعة فنائها وانقضائها ، صرح به في التفسير فلا يلزم من عدم حرمة الحياة الدنيا عدم حرمة اللعب واللهو أيضا كما لا يخفى ( قوله وكذا قول أبي حنيفة ابتليت ; لأن الابتلاء بالمحرم يكون ) يعني ودل أيضا قول أبي حنيفة ابتليت على أن الملاهي كلها حرام ; لأن الابتلاء لا يكون إلا بالمحرم ، وقد أشار إلى هذا القصر بتقديم الجار والمجرور على الفعل في قوله بالمحرم يكون .

أقول : لقائل أن يقول : دلالة قوله ابتليت على حرمة ما وجده ثمة مسلمة بناء على أن الابتلاء لا يكون إلا بالمحرم . وأما دلالته على حرمة كل الملاهي كما هو المدعى فممنوعة ، كيف ، وقد قال ابتليت بهذا مرة انتهى . ولا شك أن ما ابتلي به مرة لا يكون كل الملاهي ، بل إنما يكون شيئا معينا منها . واعترض عليه صدر الشريعة بوجه آخر حيث قال في شرح الوقاية . قالوا قوله ابتليت يدل على الحرمة ، ويمكن أن يقال : إن الصبر على الحرام لإقامة السنة لا يجوز ، والصبر الذي قاله أبو حنيفة جاز أن يكون جالسا معرضا عن ذلك اللهو منكرا له غير مشتغل ولا متلذذ به ا هـ .

أقول : ذلك ساقط ; لأن إجابة الدعوة وإن كانت سنة ابتداء إلا أنها تصير واجبة بقاء حيث يلزمه حق الدعوة بعد الحضور لالتزامه الإجابة بالحضور ، كما هو الشأن في سائر النوافل من الصلاة والصوم ونحوهما ، فإن كلا منها تصير واجبة بالشروع فيها فكان الصبر على الحرام فيما قال أبو حنيفة لإقامة الواجب فيجوز كما في صلاة الجنازة إذا حضرتها النياحة ، وقد مر منا مثل هذا الجواب فيما قبل فتذكر . ثم إن جواز كون أبي حنيفة جالسا معرضا عن ذلك اللهو منكرا له غير مشتغل ولا متلذذ به لا يدفع حرمة ذلك اللهو ولا حرمة الجلوس عليه ، إذ قد ذكر في الكافي والشروح أن الصدر الشهيد روى في كراهية الواقعات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { استماع الملاهي معصية ، والجلوس عليها فسق ، والتلذذ بها من الكفر } ومدلول هذا الحديث أن مجرد الجلوس على فسق اللهو فأنى يتصور اختيار ذلك من مثل الإمام الأعظم لو لم يعارض وجوب إجابة الدعوة بعد الحضور شر من ذلك فتأمل .

وقد أورد صاحب الإصلاح والإيضاح ما أورده صدر الشريعة مع زيادة بعض من المقدمات سيما في أول إيراده حيث قال بعد قوله ، ودل قوله على حرمة كل الملاهي ; لأن الابتلاء بالمحرم يكون كذا قالوا وفيه نظر فإن الابتلاء يستعمل فيما هو محظور العواقب ولو كان مباحا ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام { من ابتلي بالقضاء } الحديث . ثم إن الصبر على الحرام رعاية لحق الدعوة لا يجوز ، لأن السنة تترك حذرا عن ارتكاب المحظور ، فالظاهر أنه جلس معرضا عن ذلك اللهو منكرا له غير مستمع له فلم يتحقق منه الجلوس على اللهو ، فعلى هذا لا يكون مبتلى بحرام انتهى . وقد نقله بعض المتأخرين بتقصير وتحريف وعزاه في الحاشية إلى صاحب الإصلاح والإيضاح ، ثم قصد رده فأتى بكلام مفصل مشوش قابل للدخل والخرج تركنا ذكره وبيان ما فيه تحاشيا عن الإطناب الممل ، ومن شاء فليراجع كتابه .




الخدمات العلمية