الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ بيوع الآجال ]

وأما البيوع التي يعرفوها ببيوع الآجال ، فهي أن يبيع الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم يشتريها بثمن آخر إلى أجل آخر أو نقدا .

وهنا تسع مسائل - إذا لم تكن هناك زيادة عرض - اختلف منها في مسألتين ، واتفق في الباقي ، وذلك أنه من باع شيئا إلى أجل ، ثم اشتراه ، فإما أن يشتريه إلى ذلك الأجل بعينه أو قبله ، أو بعده ، وفي كل واحد من هذه الثلاثة إما أن يشتريه بمثل الثمن الذي باعه به منه ، وإما بأقل ، وإما بأكثر يختلف من ذلك في اثنين; وهو أن يشتريها قبل الأجل نقدا بأقل من الثمن ، أو إلى أبعد من ذلك الأجل بأكثر من ذلك الثمن .

فعند مالك ، وجمهور أهل المدينة أن ذلك لا يجوز . وقال الشافعي ، وداود ، وأبو ثور : يجوز .

فمن منعه فوجه منعه اعتبار البيع الثاني بالبيع الأول ، فاتهمه أن يكون إنما قصد دفع الدنانير في أكثر منها إلى أجل ، وهو الربا المنهي عنه ، فزور لذلك هذه الصورة ليتصلا بها إلى الحرام ، مثل أن يقول قائل لآخر : أسلفني عشرة دنانير إلى شهر ، وأرد إليك عشرين دينارا ، فيقول : هذا لا يجوز ، ولكن أبيع منك هذا الحمار بعشرين إلى شهر ، ثم أشتريه منك بعشرة نقدا . وأما في الوجوه الباقية فليس يتهم فيها لأنه إن أعطى أكثر من الثمن في أقل من ذلك الأجل لم يتهم .

[ ص: 510 ] وكذلك إن اشتراها بأقل من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الأجل ، ومن الحجة لمن رأى هذا الرأي حديث العالية ، عن عائشة : " أنها سمعتها وقد قالت لها امرأة كانت أم ولد لزيد بن أرقم : يا أم المؤمنين ، إني بعت من زيد عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه ، فاشتريته منه قبل محل الأجل بستمائة ، فقالت عائشة : بئسما شريت ، وبئسما اشتريت ، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب ، قالت : أرأيت إن تركت وأخذت الستمائة دينار ؟ قالت : نعم ، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف . وقال الشافعي ، وأصحابه : لا يثبت حديث عائشة ، وأيضا فإن زيدا قد خالفها ، وإذا اختلفت الصحابة فمذهبنا القياس ، وروي مثل قول الشافعي ، عن ابن عمر .

وأما إذا حدث بالمبيع نقص عند المشتري الأول ، فإن الثوري وجماعة من الكوفيين أجازوا لبائعه بالنظرة أن يشتريه نقدا بأقل من ذلك الثمن ، وعن مالك في ذلك روايتان .

والصور التي يعتبرها مالك في الذرائع في هذه البيوع هي أن يتذرع منها إلى : أنظرني أزدك ، أو إلى بيع ما لا يجوز متفاضلا ، أو بيع ما لا يجوز نساء ، أو إلى بيع ، وسلف ، أو إلى ذهب ، وعرض بذهب ، أو إلى : ضع وتعجل ، أو بيع الطعام قبل أن يستوفي ، أو بيع أو صرف ، فإن هذه هي أصول الربا .

ومن هذا الباب اختلافهم فيمن باع طعاما بطعام قبل أن يقبضه ، فمنعه مالك ، وأبو حنيفة ، وجماعة ، وأجازه الشافعي ، والثوري ، والأوزاعي وجماعة . وحجة من كرهه أنه شبيه ببيع الطعام بالطعام نساء ، ومن أجازه لم ير ذلك فيه اعتبارا بترك القصد إلى ذلك .

ومن ذلك اختلافهم فيمن اشترى طعاما بثمن إلى أجل معلوم ، فلما حل الأجل لم يكن عند البائع طعام يدفعه إليه ، فاشترى من المشتري طعاما بثمن يدفعه إليه مكان طعامه الذي وجب له فأجاز ذلك الشافعي ، وقال : لا فرق بين أن يشتري الطعام من غير المشتري الذي وجب له عليه ، أو من المشتري نفسه; ومنع من ذلك مالك ، ورآه من الذريعة إلى بيع الطعام قبل أن يستوفي ، لأنه رد إليه الطعام الذي كان ترتب في ذمته ، فيكون قد باعه منه قبل أن يستوفيه .

وصورة الذريعة في ذلك : أن يشتري رجل من آخر طعاما إلى أجل معلوم ، فإذا حل الأجل قال الذي عليه الطعام : ليس عندي طعام ، ولكن أشتري منك الطعام الذي وجب لك علي ، فقال هذا لا يصح لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفي فيقول له : فبع طعاما مني وأرده عليك ، فيعرض من ذلك ما ذكرناه ، ( أعني : أن يرد عليه ذلك الطعام الذي أخذ منه ، ويبقي الثمن المدفوع إنما هو ثمن الطعام الذي هو في ذمته ) .

وأما الشافعي : فلا يعتبر التهم كما قلنا ، وإنما يراعي فيما يحل ويحرم من البيوع ما اشترطا وذكراه بألسنتهما وظهر من فعلهما لإجماع العلماء على أنه إذا قال : أبيعك هذه الدراهم بدراهم مثلها ، وأنظرك بها حولا ، أو شهرا أنه لا يجوز ، ولو قال له : أسلفني دراهم ، وأمهلني بها حولا أو شهرا جاز ، فليس بينهما إلا اختلاف لفظ البيع ، وقصده ، ولفظ القرض وقصده .

ولما كانت أصول الربا كما قلنا خمسة : أنظرني أزدك ، والتفاضل ، والنساء ، وضع وتعجل ، وبيع [ ص: 511 ] الطعام قبل قبضه ؛ فإنه يظن أنه من هذا الباب ، إذ فاعل ذلك يدفع دنانير ويأخذ أكثر منها من غير تكلف فعل ، ولا ضمان يتعلق بذمته ، فينبغي أن نذكر هاهنا هذين الأصلين .

أما ضع وتعجل : فأجازه ابن عباس من الصحابة وزفر من فقهاء الأمصار ، ومنعه جماعة منهم ابن عمر من الصحابة ، ومالك ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وجماعة من فقهاء الأمصار ، واختلف قول الشافعي في ذلك ، فأجاز مالك ، وجمهور من ينكر : ضع وتعجل ، أن يتعجل الرجل في دينه المؤجل عرضا يأخذه ، وإن كانت قيمته أقل من دينه . وعمدة من لم يجز ضع وتعجل : أنه شبيه بالزيادة مع النظرة المجتمع على تحريمها ، ووجه شبهه بها أنه جعل للزمان مقدارا من الثمن بدلا منه في الموضعين جميعا ، وذلك أنه هنالك لما زاد له في الزمان زاد له عرضه ثمنا ، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمنا . وعمدة من أجازه : ما روي عن ابن عباس : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر بإخراج بني النضير جاءه ناس منهم ، فقالوا : يا نبي الله ، إنك أمرت بإخراجنا ، ولنا على الناس ديون لم تحل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ضعوا وتعجلوا " ، فسبب الخلاف معارضة قياس الشبه لهذا الحديث .

التالي السابق


الخدمات العلمية