الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : مشاهدة جمع . تجذب إلى عين الجمع ، مالكة لصحة الورود ، راكبة بحر الوجود .

صاحب هذه الدرجة : أثبت عند الشيخ في مقام المشاهدة ، وأمكن في مقام الجمع ، الذي هو حضرة الوجود ، وأملك لحمل ما يرد عليه في مقامه من أنواع الكشوفات والمعارف ، ولذلك كانت مشاهدته مالكة لصحة الورود ؛ أي : تشهد لنفسها بصحة ورودها إلى حضرة الجمع ، وتشهد الأشياء كلها لها بالصدق ، ويشهد المشهود أيضا لها بذلك ، فلا يبقى عندها احتمال شك ولا ريب .

وهذا أيضا مورد للملحد والموحد .

فالملحد يقول : مشاهدة الجمع هي مشاهدة الوجود الواحد ، الجامع لجميع المعاني والصور والقوى والأفعال والأسماء ، و " حضرة الجمع " عنده : هي حضرة هذا الوجود ، ومشاهدة هذا الجذب تجذب إلى عينه .

قال : وصفة هذا الجذب : أن يحل الحق تعالى عقد خليقته بيد حقيقته ، فيرجع النور الفائض على صورة خليقته إلى أصله ، ويرجع العبد إلى عدميته ، فيبقى الوجود للحق ، والفناء للخلق ، ويقيم الحق تعالى وصفا من أوصافه ، نائبا عنه في استجلاء ذاته ، فيكون الحق هو المشاهد ذاته بذاته ، في طور من أطوار ظهوره ، وهي مرتبة عبده ، فإذا ثبت الحق تعالى عبده بعد نفيه ومحوه ، وأبقاه بعد فنائه ، فعاد كما يعود السكران إلى صحوه وجد في ذاته أسرار ربه ، وطور صفاته ، وحقائق ذاته ، ومعالم وجوده ، ومطارح أشعة نوره ، ووجد خليقته أسماء مسمى ذاته ، وعوده إليه ، فيرى العبد ثبوت ذلك الاسم في حضرة سائر الأسماء المشيرة بدلالتها إلى الوجود المنزه الأصل ، الموهم الفرع ، فيؤدي استصحاب النظر إلى أصله : أن الفرع لم يفارقه هو إلا بشكله . [ ص: 228 ] والشكل على اختلاف ضروبه فمعنى عدمي لتعين إمكانه في وجوبه .

فانظر ما في الكلام من الإلحاد والكفر الصراح ، وجعل عين المخلوق نفس عين الخالق ، وأن الرب سبحانه أقام نفس أوصافه نائبة عنه في استجلاء ذاته ، وأنه شاهد ذاته بذاته في مراتب الخلق ، وأن الإنسان إذا صحا من سكره وجد في ذاته حقائق ذات الرب ، ووجد خليقته أسماء مسمى ذاته ، فيرى ثبوت ذلك الاسم في حضرة سائر الأسماء المشيرة بدلالتها إلى الوجود المنزه الأصل ، يعني عن الانقسام والتكثر " الموهم الفرع " يعني الذي يوهم فروعه وتكثر مظاهره ، واختلاف أشكاله أنه متعدد ، وإنما هو وجود واحد ، والأشكال على اختلاف ضروبها أمور عدمية ، لأنها ممكنة وإمكانها يفنى في وجوبها ، فلم يبق إلا وجوب واجب الوجود ، وهو واحد ، وإن اختلفت الأشكال التي ظهر فيها ، والأسماء التي أشارت إليه .

فالاتحادي يشاهد وجودا واحدا ، جامعا لجميع الصور والأنواع والأجناس ، فاض عليها كلها ، فظهر فيها بحسب قوابلها واستعداداتها .

وذلك الشهود يجذبه إلى انحلال عزمه عن التقيد بمعبود معين ، أو عبادة معينة ، بل يبقى معبوده الوجود المطلق الساري في الموجودات بأي معنى ظهر ، وفي أي ماهية تحقق ، فلا فرق عنده بين السجود للصنم والشمس والقمر والنجوم وغيرها ، كما قال شاعر القوم :


وإن خر للأحجار في البيد عاكف فلا تعد بالإنكار بالعصبية     وإن عبد النار المجوس وما انطفت
كما جاء في الأخبار مذ ألف حجة     فما عبدوا غيري وما كان قصدهم
سواي وإن لم يظهروا عقد نية     وما عقد الزنار حكما سوى يدي
وإن حل بالإقرار لي فهي بيعتي

وكما قال عارفهم : واعلم أن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ، ويجهله من جهله ، فالعارف يعرف من عبد ، وفي أي صورة ظهر ، قال الله : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه قال : وما قضى الله شيئا إلا وقع ، وما عبد غير لله في كل معبود ، فهذا مشهد الملحد .

[ ص: 229 ] والموحد يشاهد بإيمانه ويقينه ذاتا جامعة للأسماء الحسنى ، والصفات العلى ، لها كل صفة كمال ، وكل اسم حسن ، وذلك يجذبه إلى نفس اجتماع همه على الله ، وعلى القيام بفرائضه .

والطريق بمجموعها لا تخرج عن هذين السببين ، وإن طولوا العبارات ، ودققوا الإشارات ، فالأمر كله دائر على جمع الهمة على الله ، واستفراغ الوسع بغاية النصيحة في التقرب إليه بالنوافل ، بعد تكميل الفرائض ، فلا تطول ولا يطول عليك .

وشيخ الإسلام مراده بالجمع الجاذب إلى عين الجمع أمر آخر بين هذا وبين جمع أهل الوحدة وعين جمعهم ، لا هو هذا ولا هو هذا ، فهو دائر على الفناء لا تأخذه فيه لومة لائم ، وهو الجمع الذي يدندن حوله ، وعين الجمع عنده هو تفرد الرب سبحانه بالأزلية وبالدوام ، وبالخلق والفعل ، فكان ولا شيء ، ويعود بعد كل شيء ، وهو المكون لكل شيء ، فلا وجود في الحقيقة لغيره ، ولا فعل لغيره ، بل وجود غيره كالخيال والظلال ، وفعل غيره في الحقيقة كحركات الأشجار والنبات ، وهذا تحقيق الفناء في شهود الربوبية والأزلية والأبدية ، وطي بساط شهود الأكوان ، فإذا ظهر هذا الحكم انمحق وجود العبد في وجود الحق ، وتدبيره في تدبير الحق ، فصار سبحانه هو المشهود بوجود العبد ، متلاش مضمحل كالخيال والظلال .

ولا يستعد لهذا عندهم إلا من اجتمعت إرادته على المراد وحده ، حالا لا تكلفا ، وطبعا لا تطبعا ، فقد تنبعث الهمة إلى أمر وتتعلق به ، وصاحبها معرض عن غير مطلبه ، متحل به ، ولكن إرادة السوى كامنة فيه ، قد توارى حكمها واستتر ، ولما يزل ، فإن القلب إذا اشتغل بشيء اشتغالا تاما توارث عنه إرادته لغيره ، والتفاته إلى ما سواه مع كونه كامنا في نفسه ، مادته حاضرة عنده ، فإذا وجد فجوة وأدنى تخل من شاغله ، ظهر حكم تلك الإرادات التي كان سلطان شهوده يحول بينه وبينها ، فإذا الجمع وعين الجمع ثلاث مراتب .

أعلاها : جمع لهم على الله : إرادة ومحبة وإنابة ، وجمع القلب والروح والنفس والجوارح على استفراغ الوسع في التقرب إليه بما يحبه ويرضاه ، دون رسوم الناس وعوائدهم ، فهذا جمع خواص المقربين وساداتهم .

والثاني : الاستغراق في الفناء في شهود الربوبية ، وتفرد الرب سبحانه بالأزلية والدوام ، وأن الوجود الحقيقي له وحده ، وهذا الجمع دون الجمع الأول بمراتب كثيرة .

[ ص: 230 ] والثالث : جمع الملاحدة الاتحادية ، وعين جمعهم ؛ وهو جمع الشهود في وحدة الوجود ، فعليك بتمييز المراتب ؛ لتسلم من المعاطب ، وسيأتي ذكر مراتب الجمع والتمييز بين صحيحها وفاسدها ، في آخر باب التوحيد من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ، والله المستعان .

قوله : " مالكة لصحة الورود " أي : ضامنة لصحة ورودها ، شاهدة بذلك مشهودا لها به ، لأنها فوق مشاهدة المعرفة ، وفوق مشاهدة المعاينة .

قوله : " راكبة بحر الوجود " يعني : تلك المشاهدة راكبة بحر الوجود ، فهي في لجة بحره لا في أنواره ، ولا في بوارقه .

وقد تقدم الكلام على مراده بالوجود وأنه وجود علم ، ووجود عين ، ووجود مقام ، وسيأتي تمام الكلام عليه في بابه إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية