الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 341 ] فصل

قال : الدرجة الثالثة : معرفة مستغرقة في محض التعريف ، لا يوصل إليها الاستدلال ، ولا يدل عليها شاهد ، ولا تستحقها وسيلة ، وهي على ثلاثة أركان : مشاهدة القرب ، والصعود عن العلم ، ومطالعة الجمع ، وهي معرفة خاصة الخاصة .

إنما كانت هذه المعرفة عنده أرفع مما قبلها ؛ لأن ما قبلها متعلقة بالوسائط والشواهد ، متصلة إلى المطلوب ، وهذه متعلقة بعين المقصود فقط ، طاوية للوسائط والشواهد ، فالوسائط صاعدة عنها إليه ، وهي غالبة على حال العارف وشهوده ، وقد استغرقت إدراكه لما هو فيه ، بحيث غاب عن معرفته بمعروفه ، وعن ذكره بمذكوره ، وعن وجوده بموجوده .

فقوله : " مستغرقة في محض التعريف " .

" المعرفة " صفة العبد وفعله ، و " التعريف " فعل الرب وتوفيقه ، فاستغرقت صفة العبد في فعل الرب وتعريفه نفسه لعبده .

وقوله " لا يوصل إليها بالاستدلال " يريد أن هذه المعرفة في الدرجة الثالثة لا يوصل إليها بسبب ، فإن الأسباب قد انطوت فيها ، والوسائل قد انقطعت دونها ، فلا يدل عليها شاهد غيرها ، بل هي شاهد نفسها ، فشاهدها وجودها ، ودليلها نفسها ، ولا تعجل بإنكار هذا ، فالأمور الوجدانية كذلك ، ودليلها نفسها ، وشاهدها حقيقتها ، فتصير هذه المعرفة للعارف كالأمور الوجدانية ، كاللذة والفرح ، والحب والخوف ، وغيرها من الأمور التي لا يطلب من قامت به شاهدا عليها من سوى أنفسها .

ولعمر الله إن هذه درجة من المعرفة منيفة ، ورتبة شريفة ، تنقطع دونها أعناق مطايا السائرين ، فلذلك لا يوصل إليها بالاستدلال ، ولا يدل عليها شاهد ، ولا تستحقها وسيلة ، والأعمال والأحوال والمقامات كلها وسائل ، وهي لا تستحق هذه الدرجة من المعرفة ، وإنما هي فضل من الفضل كله بيده ، وهو ذو الفضل العظيم ، وكون الوسائل المذكورة لا تستحقها لا تمنع من القيام بها على أتم الوجوه ، وبذل الجهد فيها ، ومع ذلك فلا تستحقها الوسائل .

[ ص: 342 ] قوله : " وهي على ثلاثة أركان : مشاهدة القرب ، والصعود عن العلم ، ومطالعة الجمع ، إنما كانت هذه الثلاثة أركانا لها ؛ لأن صاحب هذه المعرفة قد وصل من القرب إلى مقام يليق به بحسب معرفته ، فكلما كانت معرفته أتم ؛ كان قربه أتم ، فإن شهود الوسائط والوسائل حجاب عن عين القرب ، وإلغاؤها وجحودها حجاب عن أصل الإيمان .

وأما صعوده عن العلم : فليس المراد به صعوده عن أحكامه ، فإن ذلك سقوط ونزول إلى الحضيض الأدنى ، لا صعود إلى المطلب الأعلى ، وإنما المراد : أنه يصعد بأحكام العلم عن الوقوف معه ، وتوسيطه بينه وبين المطلوب ، فإن الوسائط قد طوي بساطها في هذا الشهود والعرفان ، أعني : بساط الوقوف معها والنظر إليها ، فيدرك مشهوده ومعروفه به سبحانه ، لا بالعلم والخبر ، بل بالمشاهدة والعيان ، وإن كان لم يصل إلى ذلك إلا بالعلم والخبر ، لكنه قد صعد من العلم والخبر إلى المعلوم المخبر عنه .

وأما مطالعة الجمع فهي الغاية عند هذه الطائفة : ونحن لا ننكر ذلك ، لكن أي جمع هو ؟ هل هو جمع الوجود ، كما يقوله الاتحادي ؟ أم جمع الشهود ، كما يقوله صاحب الفناء في توحيد الربوبية ؟ أم هو جمع الإرادة كلها في مراد الرب تعالى الديني الأمري ؟ فالشأن في هذا الجمع الذي مطالعته من أعلى أنواع المعرفة .

نعم هاهنا جمع آخر ، مطالعته هي كل المعرفة ، وهو : جمع الأفعال في الصفات ، وجمع الصفات في الذات ، وجمع الأسماء في الذات والصفات والأفعال ، فمطالعة هذا الجمع : هي غاية المعرفة ، وأعلى أنواعها ، وهي - لعمر الله - معرفة خاصة الخاصة ، والله المستعان ، وبه التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

التالي السابق


الخدمات العلمية