الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فأما المفلس : فله حالان : حال في وقت الفلس قبل الحجر عليه ، وحال بعد الحجر .

فأما قبل الحجر : فلا يجوز له إتلاف شيء من ماله عند مالك بغير عوض إذا كان مما لا يلزمه ، ومما لا تجري العادة بفعله . وإنما اشترط إذا كان مما لا يلزمه; لأن له أن يفعل ما يلزم بالشرع ، وإن لم يكن بعوض ، كنفقته على الآباء المعسرين ، أو الأبناء ، وإنما قيل مما لم تجر العادة بفعله; لأن له إتلاف اليسير من ماله بغير عوض كالأضحية ، والنفقة في العيد ، والصدقة اليسيرة ، وكذلك تراعى العادة في إنفاقه في عوض كالتزوج ، والنفقة على الزوجة .

ويجوز بيعه ، وابتياعه ما لم تكن فيه محاباة ، وكذلك يجوز إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه . واختلف قول مالك في قضاء بعض غرمائه دون بعض وفي رهنه .

وأما جمهور من قال بالحجر على المفلس فقالوا : هو قبل الحكم كسائر الناس ، وإنما ذهب الجمهور لهذا; لأن الأصل هو جواز الأفعال حتى يقع الحجر ، ومالك كأنه اعتبر المعنى نفسه ، وهو إحاطة الدين بماله ، لكن لم يعتبره في كل حال; لأنه يجوز بيعه ، وشراؤه إذا لم يكن فيه محاباة ، ولا يجوزه للمحجور عليه .

وأما حاله بعد التفليس : فلا يجوز له فيها عند مالك بيع ، ولا شراء ، ولا أخذ ، ولا عطاء ، ولا يجوز إقراره بدين في ذمته لقريب ولا بعيد ، قيل : إلا أن يكون لواحد منهم بينة ، وقيل : يجوز لمن يعلم منه إليه تقاض . واختلف في إقراره بمال معين مثل القراض ، والوديعة على ثلاثة أقوال في المذهب : بالجواز ، والمنع ، والثالث : بالفرق بين أن يكون على أصل القراض ، أو الوديعة ببينة ، أو لا تكون ، فقيل : إن كانت صدق وإن لم تكن لم يصدق .

واختلفوا من هذا الباب في ديون المفلس المؤجلة ; هل تحل بالتفليس أم لا ؟ فذهب مالك إلى أن التفليس في ذلك كالموت ، وذهب غيره إلى خلاف ذلك ، وجمهور العلماء على أن الديون تحل بالموت . قال ابن شهاب : مضت السنة بأن دينه قد حل حين مات .

وحجتهم : أن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين ، فالورثة في ذلك بين أحد أمرين : إما أن لا يريدوا أن يؤخروا حقوقهم في المواريث إلى محل أجل الدين فيلزم أن يجعل الدين حالا ، وإما أن يرضوا بتأخير ميراثهم حتى تحل الديون فتكون الديون حينئذ في التركة خاصة لا في ذممهم ، بخلاف ما كان عليه الدين قبل الموت; لأنه كان في ذمة الميت ، وذلك يحسن في حق ذي الدين . ولذلك [ ص: 629 ] رأى بعضهم أنه إن رضي الغرماء بتحمله في ذممهم أبقيت الديون إلى أجلها ، وممن قال بهذا القول ابن سيرين ، واختاره أبو عبيد من فقهاء الأمصار ، لكن لا يشبه الفلس في هذا المعنى الموت كل الشبه ، وإن كانت كلتا الذمتين قد خربت ، فإن ذمة المفلس يرجى المال لها ، بخلاف ذمة الميت .

وأما النظر فيما يرجع به أصحاب الديون من مال المفلس : فإن ذلك يرجع إلى الجنس ، والقدر . أما ما كان قد ذهب عين العوض الذي استوجب من قبله الغريم على المفلس فإن دينه في ذمة المفلس . وأما إذا كان عين العوض باقيا بعينه لم يفت إلا أنه لم يقبض ثمنه ، فاختلف في ذلك فقهاء الأمصار على أربعة أقوال :

الأول : أن صاحب السلعة أحق بها على كل حال إلا أن يتركها ، ويختار المحاصة ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور .

والقول الثاني : ينظر إلى قيمة السلعة يوم الحكم بالتفليس ، فإن كانت أقل من الثمن خير صاحب السلعة بين أن يأخذها ، أو يحاص الغرماء ، وإن كانت مساوية للثمن أخذها بعينها ، وبه قال مالك ، وأصحابه .

والقول الثالث : تقوم السلعة بين التفليس ، فإن كانت قيمتها مساوية للثمن ، أو أقل منه قضي له بها ( أعني : للبائع ) ، وإن كانت أكثر دفع إليه مقدار ثمنه ، ويتحاصون في الباقي ، وبهذا القول قال جماعة من أهل الأثر .

والقول الرابع : أنه أسوة الغرماء فيها على كل حال ، وهو قول أبي حنيفة ، وأهل الكوفة .

والأصل في هذه المسألة : ما ثبت من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره " . وهذا الحديث خرجه مالك ، والبخاري ، ومسلم ، وألفاظهم متقاربة ، وهذا اللفظ لمالك .

فمن هؤلاء من حمله على عمومه وهو الفريق الأول . ومنهم من خصصه بالقياس وقالوا : إن معقوله إنما هو الرفق بصاحب السلعة لكون سلعته باقية ، وأكثر ما في ذلك أن يأخذ الثمن الذي باعها به ، فأما أن يعطي في هذه الحال الذي اشترك فيها مع الغرماء أكثر من ثمنها فذلك مخالف لأصول الشرع ، وبخاصة إذا كان للغرماء أخذها بالثمن كما قال مالك .

وأما أهل الكوفة فردوا هذا الحديث بجملته لمخالفته للأصول المتواترة على طريقتهم في رد الخبر الواحد إذا خالف الأصول المتواترة ، لكون خبر الواحد مظنونا ، والأصول يقينية مقطوع بها ، كما قال عمر في حديث فاطمة بنت قيس : ما كنا لندع كتاب الله وسنة نبينا لحديث امرأة . ورواه عن علي أنه قضى بالسلعة للمفلس ، وهو رأي ابن سيرين ، وإبراهيم من التابعين .

وربما احتجوا بأن حديث أبي هريرة مختلف فيه ، وذلك أن الزهري روى عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أيما رجل مات ، أو أفلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة الغرماء " . وهذا الحديث أولى; لأنه موافق للأصول الثابتة . قالوا : وللجمع بين الحديثين وجه ، وهو حمل ذلك الحديث على الوديعة والعارية ، إلا أن الجمهور دفعوا هذا التأويل بما ورد في لفظ حديث أبي هريرة [ ص: 630 ] في بعض الروايات من ذكر البيع ، وهذا كله عند الجميع بعد قبض المشتري السلعة ، فأما قبل القبض فالعلماء متفقون أهل الحجاز ، وأهل العراق أن صاحب السلعة أحق بها; لأنها في ضمانه .

واختلف القائلون بهذا الحديث إذا قبض البائع بعض الثمن ، فقال مالك : إن شاء أن يرد ما قبض ويأخذ السلعة كلها ، وإن شاء حاص الغرماء فيما بقي من سلعته . وقال الشافعي : بل يأخذ ما بقي من سلعته بما بقي من الثمن . وقالت جماعة من أهل العلم داود ، وإسحاق ، وأحمد : إن قبض من الثمن شيئا فهو أسوة الغرماء .

وحجتهم : ما روى مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أيما رجل باع متاعا ، فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به ، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء " . وهو حديث ، وإن أرسله مالك فقد أسنده عبد الرزاق ، وقد روي من طريق الزهري ، عن أبي هريرة فيه زيادة بيان ، وهو قوله فيه : " فإن كان قبض من ثمنه شيئا فهو أسوة الغرماء " . ذكره أبو عبيد في كتابه في الفقه ، وخرجه .

وحجة الشافعي : أن كل سلعة ، أو بعضها في الحكم واحد .

ولم يختلفوا أنه إذا فوت المشتري بعضها أن البائع أحق بالمقدار الذي أدرك من سلعته ، إلا عطاء فإنه قال : إذا فوت المشتري بعضها كان البائع أسوة الغرماء .

التالي السابق


الخدمات العلمية