الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بسم الله الرحمن الرحيم .

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .

كتاب الكفالة .

واختلف العلماء في نوعها وفي وقتها ، وفي الحكم اللازم عنها ، وفي شروطها ، وفي صفة لزومها ، وفي محلها .

ولها أسماء : كفالة ، وحمالة ، وضمانة ، وزعامة .

فأما أنواعها : فنوعان : حمالة بالنفس ، وحمالة بالمال .

أما الحمالة بالمال : فثابتة بالسنة ، ومجمع عليها من الصدر الأول ومن فقهاء الأمصار . وحكي عن قوم أنها ليست لازمة تشبيها بالعدة وهو شاذ . والسنة التي صار إليها الجمهور في ذلك هي قوله عليه الصلاة والسلام : " الزعيم غارم " .

وأما الحمالة بالنفس ( وهي التي تعرف بضمان الوجه ) : فجمهور فقهاء الأمصار على جواز وقوعها شرعا إذا كانت بسبب المال . وحكي عن الشافعي في الجديد أنها لا تجوز ، وبه قال داود ، وحجتهما قوله تعالى : ( معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ) [ يوسف : 79 ] . ولأنها كفالة بنفس; فأشبهت [ ص: 636 ] الكفالة في الحدود . وحجة من أجازها عموم قوله عليه الصلاة والسلام : " الزعيم غارم " . وتعلقوا بأن في ذلك مصلحة ، وأنه مروي عن الصدر الأول .

وأما الحكم اللازم عنها : فجمهور القائلين بحمالة النفس متفقون على أن المتحمل عنه إذا مات لم يلزم الكفيل بالوجه شيء . وحكي عن بعضهم لزوم ذلك . وفرق ابن القاسم بين أن يموت الرجل حاضرا أو غائبا ، فقال : إن مات حاضرا لم يلزم الكفيل شيء ، وإن مات غائبا نظر ، فإن كانت المسافة التي بين البلدين مسافة يمكن الحميل فيها إحضاره في الأجل المضروب له في إحضاره ( وذلك في نحو اليومين إلى الثلاثة ) ، ففرط : غرم ، وإلا لم يغرم .

واختلفوا إذا غاب المتحمل عنه ما حكم الحميل بالوجه على ثلاثة أقوال :

القول الأول : إنه يلزمه أن يحضره أو يغرم ، وهو قول مالك ، وأصحابه ، وأهل المدينة .

والقول الثاني : إنه يحبس الحميل إلى أن يأتي به أو يعلم موته ، وهو قول أبي حنيفة ، وأهل العراق .

والقول الثالث : إنه ليس عليه إلا أن يأتي به إذا علم موضعه ، ومعنى ذلك أن لا يكلف إحضاره إلا مع العلم بالقدرة على إحضاره ، فإن ادعى الطالب معرفة موضعه على الحميل ، وأنكر الحميل ؛ كلف الطالب بيان ذلك . قالوا : ولا يحبس الحميل إلا إذا كان المتحمل عنه معلوم الموضع ، فيكلف حينئذ إحضاره ، وهذا القول حكاه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه في الفقه عن جماعة من الناس واختاره .

وعمدة مالك : أن المتحمل بالوجه غارم لصاحب الحق فوجب عليه الغرم إذا غاب ، وربما احتج لهم بما روي عن ابن عباس : " أن رجلا سأل غريمه أن يؤدي إليه ماله أو يعطيه حميلا ، فلم يقدر حتى حاكمه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، فتحمل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أدى المال إليه " . قالوا : فهذا غرم في الحمالة المطلقة .

وأما أهل العراق فقالوا : إنما يجب عليه إحضار ما تحمل به وهو النفس ، فليس يجب أن يعدى ذلك إلى المال إلا لو شرطه على نفسه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " المؤمنون عند شروطهم " . فإنما عليه أن يحضره أو يحبس فيه ، فكما أنه إذا ضمن المال فإنما عليه أن يحضر المال ، أو يحبس فيه ، كذلك الأمر في ضمان الوجه .

وعمدة الفريق الثالث : أنه إنما يلزمه إحضاره إذا كان إحضاره له مما يمكن ، وحينئذ يحبس إذا لم يحضره ، وأما إذا علم أن إحضاره له غير ممكن فليس يجب عليه إحضاره كما أنه إذا مات ليس عليه إحضاره . قالوا : ومن ضمن الوجه فأغرم المال فهو أحرى أن يكون مغرورا من أن يكون غارا .

فأما إذا اشترط الوجه دون المال وصرح بالشرط فقد قال مالك : إن المال لا يلزمه ، ولا خلاف في هذا فيما أحسب; لأنه كان يكون قد ألزم ضد ما اشترط ، فهذا هو حكم ضمان الوجه .

وأما حكم ضمان المال : فإن الفقهاء متفقون على أنه إذا عدم المضمون أو غاب أن الضامن غارم .

واختلفوا إذا حضر الضامن والمضمون وكلاهما موسر : فقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما ، والثوري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق : للطالب أن يؤاخذ من شاء من الكفيل ، أو المكفول . وقال مالك في أحد قوليه : ليس له أن يأخذ الكفيل مع وجود المتكفل عنه . وله قول آخر مثل قول الجمهور . وقال أبو ثور : [ ص: 637 ] الحمالة ، والكفالة واحدة ، ومن ضمن عن رجل مالا لزمه وبرئ المضمون ، ولا يجوز أن يكون مال واحد على اثنين ، وبه قال ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة .

ومن الحجة لما رأى أن الطالب يجوز له مطالبة الضامن; كان المضمون عنه غائبا ، أو حاضرا ، غنيا ، أو عديما : حديث قبيصة بن المخارقي قال : " تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عنها ، فقال : تخرجها عنك من إبل الصدقة يا قبيصة ، إن المسألة لا تحل إلا في ثلاث ، وذكر رجلا تحمل حمالة رجل حتى يؤديها " . ووجه الدليل من هذا النبي صلى الله عليه وسلم أباح المسألة للمتحمل دون اعتبار حال المتحمل عنه .

وأما محل الكفالة : فهي الأموال عند جمهور أهل العلم لقوله عليه الصلاة والسلام : " الزعيم غارم " ( أعني : كفالة المال وكفالة الوجه ) ، وسواء تعلقت الأموال من قبل أموال ، أو من قبل حدود ، مثل المال الواجب في قتل الخطإ ، أو الصلح في قتل العمد ، أو السرقة التي ليس يتعلق بها قطع ، وهي ما دون النصاب ، أو من غير ذلك . وروي عن أبي حنيفة إجازة الكفالة في الحدود والقصاص ، أو في القصاص دون الحدود وهو قول عثمان البتي ( أعني كفالة النفس ) .

وأما وقت وجوب الكفالة بالمال ( أعني مطالبته بالكفيل ) : فأجمع العلماء على أن ذلك بعد ثبوت الحق على المكفول إما بإقرار وإما ببينة .

وأما وقت وجوب الكفالة بالوجه : فاختلفوا هل تلزم قبل إثبات الحق أم لا ؟ فقال قوم : إنها لا تلزم قبل إثبات الحق بوجه من الوجوه ، وهو قول شريح القاضي ، والشعبي ، وبه قال سحنون من أصحاب مالك . وقال قوم : بل يجب أخذ الكفيل بالوجه على إثبات الحق ، وهؤلاء اختلفوا متى يلزم ذلك ؟ وإلى كم من المدة يلزم ؟

فقال قوم : إن أتى بشبهة قوية مثل شاهد واحد لزمه أن يعطي ضامنا بوجهه حتى يلوح حقه ، وإلا لم يلزمه الكفيل إلا أن يذكر بينة حاضرة في المصر ، فيعطيه حميلا من الخمسة الأيام إلى الجمعة ، وهو قول ابن القاسم من أصحاب مالك ، وقال أهل العراق : لا يؤخذ عليهم حميل قبل ثبوت الحق إلا أن يدعي بينة حاضرة في المصر نحو قول ابن القاسم ، إلا أنهم حدوا ذلك بالثلاثة الأيام يقولون : إنه : من أتى بشبهة لزمه أن يعطيه حميلا حتى يثبت دعواه أو تبطل ، وقد أنكروا الفرق في ذلك والفرق بين الذي يدعي البينة الحاضرة والغائبة ، وقالوا : لا يؤخذ حميل على أحد إلا ببينة ، وذلك إلى بيان صدق دعواه أو إبطالها .

وسبب هذا الاختلاف : تعارض وجه العدل بين الخصمين في ذلك ، فإنه إذا لم يؤخذ عليه ضامن بمجرد الدعوى لم يؤمن أن يغيب بوجهه فيعنت طالبه ، وإذا أخذ عليه لم يؤمن أن تكون الدعوى باطلة فيعنت المطلوب ، ولهذا فرق من فرق بين دعوى البينة الحاضرة والغائبة .

وروي عن عراك بن مالك قال : " أقبل نفر من الأعراب معهم ظهر ، فصحبهم رجلان فباتا معهم ، فأصبح القوم وقد فقدوا كذا وكذا من إبلهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الرجلين : اذهب واطلب ، وحبس الآخر ، فجاء بما ذهب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الرجلين : استغفر لي ، فقال : غفر الله لك ، قال : وأنت فغفر الله لك وقتلك في سبيله " خرج هذا الحديث أبو عبيد في كتابه بالفقه ، قال : وحمله بعض العلماء على أن ذلك كان من رسول الله حبسا قال : ولا يعجبني ذلك; لأنه لا يجب الحبس بمجرد الدعوى ، [ ص: 638 ] وإنما هو عندي من باب الكفالة بالحق الذي لم يجب إذا كانت هنالك شبهة لمكان صحبتهما لهم .

فأما أصناف المضمونين : فليس يلحق من قبل ذلك اختلاف مشهور لاختلافهم في ضمان الميت إذا كان عليه دين ولم يترك وفاء بدينه ، فأجازه مالك ، والشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز .

واستدل أبو حنيفة من قبل أن الضمان لا يتعلق بمعلوم قطعا ، وليس كذلك المفلس . واستدل من رأى أن الضمان يلزمه بما روي : " أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في صدر الإسلام لا يصلي على من مات وعليه دين حتى يضمن عنه " . والجمهور يصح عندهم كفالة المحبوس والغائب ، ولا يصح عند أبي حنيفة .

وأما شروط الكفالة : فإن أبا حنيفة والشافعي يشترطان في وجوب رجوع الضامن على المضمون بما أدى عنه أن يكون الضمان بإذنه ، ومالك لا يشترط ذلك .

ولا تجوز عند الشافعي كفالة المجهول ، ولا الحق الذي لم يجب بعد ، وكل ذلك لازم وجائز عند مالك ، وأصحابه .

وأما ما تجوز فيه الحمالة بالمال مما لا تجوز : فإنها لا تجوز عند مالك بكل مال ثابت في الذمة إلا الكتابة ، وما لا يجوز فيه التأخير ، وما يستحق شيئا فشيئا مثل النفقات على الأزواج ، وما شاكلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية