الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 237 ]

                قالوا : هذا يستلزم أن التكاليف بأسرها تكليف بالمحال ، وهو باطل بالإجماع . قلنا : ملتزم . والإجماع إن عنيتم به العقلي فممنوع ، أو الشرعي ، فالمسألة علمية ، والإجماع لا يصلح دليلا فيها لظنيته ، بدليل الخلاف في تكفير منكر حكمه ، على ما سيأتي .

                التالي السابق


                قوله : " قالوا : هذا " اعتراض على الدليل المذكور .

                وتقريره : أن ما ذكرتم " يستلزم أن التكاليف بأسرها ، تكليف بالمحال ، وهو باطل بالإجماع " .

                أما كونه يستلزم ذلك ، فلأن التكاليف بأسرها إما معلوم الوجود لله تعالى ، أو معلوم العدم ، وقد بينتم أن إيجاد كل واحد منهما محال ، والتكاليف تراد للإيجاد ، فالتكليف بها تكليف بإيجاد المحال ، فثبت أن ما ذكرتموه يستلزم أن التكاليف بأسرها تكليف بالمحال .

                وأما كون ذلك باطلا بالإجماع ، فلأن العلماء أجمعوا على أن المعلومات منقسمة إلى واجب ، وممتنع ، وممكن ، والأفعال المكلف بها من جملة المعلومات ، فيكون فيها الممكن ، وذلك ينفي ما استلزمه قولكم من أن التكاليف كلها تكليف بالمحال ، لأن القضية الكلية تنتقض بالصورة الجزئية .

                قوله : " قلنا : ملتزم " أي : ما ألزمتموناه ، وهو أن التكاليف كلها تكليف بالمحال ملتزم ، نلتزمه ونقول به . وأما قولكم : هو باطل بالإجماع ، فنقول : ما تعنون [ ص: 238 ] بالإجماع الذي استندتم إليه في بطلان قولنا ؟ إن عنيتم به الإجماع العقلي ، وهو إجماع العقلاء ، على أن بعض المعلومات ممكن ، والتكاليف من المعلومات ، فيكون بعضها ممكنا ، فيبطل كون جميعها محالا ؟

                قلنا : الممكن‌‌‌‌‌ الذي أجمع العقلاء على وجوده في عموم المعلومات وخصوص التكاليف ، هو الممكن لذاته ، أما الممكن لغيره ، فيمتنع وجوده في التكاليف بما قررناه ، والإجماع العقلي يدل على بطلان ذلك .

                وإن عنيتم بالإجماع المذكور الإجماع الشرعي الصادر عن أدلة الشرع ، فالمسألة التي نحن فيها علمية ، أي : المطلوب فيها العلم الجازم ، لأن البراهين تتجه فيها ، والإجماع الشرعي لا يصلح دليلا في هذه المسألة ونظائرها من العلميات لظنيته ، أي : لكونه ظنيا ، أي : مستنده أدلة ظنية ، وإنما يفيد الظن لا القطع ، والمطالب العلمية لا تحصل بالمدارك الظنية .

                والدليل على أن الإجماع الشرعي ظني - كما قلنا - أن علماء الأمة اختلفوا في تكفير منكر حكمه ، أي : من أنكر حكما مجمعا عليه ، على ما سيأتي في باب الإجماع ، إن شاء الله تعالى ، وأجمعوا على تسويغ هذا الخلاف ، ولو كان علميا ، لما اختلفوا في تكفير من أنكر حكمه ، كما لم يختلفوا في تكفير من أنكر حكما شرعيا ضروريا ، كوجود الصانع وتوحيده ، وإرسال الرسل ، ووجوب الأركان الخمسة .

                وأيضا ، فأهل الإجماع الشرعي إنما يتكلمون في أحكام الشريعة الظاهرة العملية ، وكلامنا ههنا في سر الإلهية الذي تاهت فيه العقول ، وهو القدر ، [ ص: 239 ] وخلق الأفعال ، والتوفيق والخذلان ، والتكليف بما لا يطاق ، وهي أحكام باطنة علمية ، كما أشرنا إليه في آخر مسألة تكليف المكره ، فأين موضوع نظر أهل الإجماع من هذا ، حتى يستند إليه في بطلان ما ذكرنا ؟

                ونحن نرى أهل الإجماع الشرعي يتكلمون فيه بما يقع لهم ، ثم إذا تكلموا في هذه المسائل ، انقسموا هم بأعيانهم إلى جبرية وقدرية ومتوسطة مع اعتقادهم أن الإجماع الشرعي حجة ، لكن في العلميات والظنيات ، ولا يرتبطون عليه في العلميات والعقليات . فدل على ما ذكرناه ، من أن الإجماع الشرعي لا يصلح مستندا لبطلان ما التزمناه ، من أن التكاليف بأسرها تكليف بالمحال ، بالمعنى الذي قررناه . والله أعلم .

                تنبيه : حيث انتهى الكلام على لفظ " المختصر " ، فلنذكر جملة مآخذ المسألة عقلا وسمعا .

                أما مأخذها عقلا ، فذكره الكناني وغيره من وجهين :

                أحدهما : أنه هل يتحقق الطلب في نفسه من العالم باستحالة وقوع المطلوب أم لا ؟ خصوصا إن اشترطت الإرادة في الأمر ، هل يتناقض علمه بأن لا يقع ، مع إرادته لأن يقع أم لا ؟

                قلت : فإن تحقق الطلب ، ولم تتناقض صفة العلم والقدرة ، جاز تكليف ما لا يطاق ، وإلا فلا .

                الوجه الثاني : أن الثواب والعقاب ، هل يستحقان على الأعمال أو الأعمال في حكم الأعلام عليها ؟ [ ص: 240 ]

                قلت : فإن قلنا : الثواب يستحق بالعمل ، وجب أن يكون العمل ممكنا ، متصور الوقوع ، ليترتب عليه استحقاق الثواب ، وإن قلنا : العمل علم على الثواب ، لم يجب أن يكون العمل متصور الوقوع ، وكان عدمه لامتناعه علما على ما يراد بالمكلف من الجزاء ، كالكافر ، كان عدم إيمانه علما على عذابه ، وهذا راجع إلى سر القدر الذي سبق تقريره .

                وأما مأخذها سمعا فقوله سبحانه وتعالى : ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به [ البقرة : 286 ] ، أقر قائليه عليه في سياق المدح لهم ، ولو لم يكن تكليف ما لا يطاق جائزا لما سألوا دفعه ، ولا أقرهم الله سبحانه وتعالى عليه ، لأنه نسبة لما لا يجوز عليه إليه ، فلما سألوه وأقرهم ، دل على جوازه ، وهذا ظاهر لا قاطع ، وأجيب عنه ، بأن الآية لا تدل على جواز تكليف ما لا يطاق ، إذ قد يقع السؤال بما لا يجوز على الله غيره ، نحو قوله تعالى : ( قال رب احكم ‎بالحق ) [ الأنبياء : 112 ] ، ولم يدل على أن الله سبحانه وتعالى يجوز أن يحكم بالباطل ، ويمدح بقوله تعالى : وما أنا بظلام للعبيد [ ق : 29 ] ، مع أنه لا يجوز عليه الظلم ، وإن سلمناه ، فإنهم إنما سألوا أن لا يكلفهم ما يشق عليهم ، وهذا متعارف في اللغة أن يقول الشخص لما يشق عليه : لا أطيقه ، لا أنهم علموا جواز تكليف ما لا يطاق ، فسألوا نفيه ، وإن سلمناه ، فهو معارض بقوله في الآية بعينها ، وفي آيات غيرها : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] ، والمعتمد عليه في المسألة ما سبق .

                أما وقوع ما لا يطاق ، فلم يقع في فروع الشريعة ، وإنما وقع في أصولها ، في [ ص: 241 ] خلق الأفعال على مذهب أهل السنة . وفروع تكليف ما لا يطاق في أصول الدين والفقه كثيرة ، جمعت جملة منها في كتاب " رد القول القبيح بالتحسين والتقبيح " فلم يجب علي ذكرها هنا والله أعلم .




                الخدمات العلمية