الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : قياس التقريب .

                                                                                                                                            وأما قياس التقريب فعلى ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفي الصفتين وقد جمع الفرع صفتي الأصلين ، فيرجح في الفرع أغلب الصفتين .

                                                                                                                                            مثاله : في المعقول : أن يكون أحد الأصلين معلولا بالبياض والآخر معلولا بالسواد ويكون الفرع جامعا للسواد والبياض فيعتبر حاله : فإن كان بياضه أكثر من سواده رد إلى الأصل المعلول بالبياض ولم يكن للسواد فيه تأثير ، وإن كان سواده أكثر من بياضه رد إلى الأصل المعلول بالسواد ولم يكن للبياض فيه تأثير .

                                                                                                                                            [ ص: 150 ] ومثاله في الشرع : الشهادات أمر الله تعالى فيها بقبول العدل ورد الفاسق ، وقد علم أن أحدا غير الأنبياء لا يمحض الطاعة حتى لا يشوبها بمعصية من الصغائر ، ولا أحد يمحض المعصية حتى لا يشوبها بشيء من الطاعات ، فوجب اعتبار الأغلب من حاليه كما قال تعالى : فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية [ القارعة : 6 : 9 ] . وإن كانت الطاعات أغلب عليه حكم بعدالته ، ولا تأثير لما فيه من معصية ، وإن كانت المعاصي أغلب عليه حكم بفسقه ، ولا تأثير لما فيه من طاعة .

                                                                                                                                            وامتنع أبو حنيفة من هذا الضرب أن يكون قياسا : لأن القياس ما استخرج علة فرعه من أصله ، وهذا قد استخرج علة أصله من فرعه .

                                                                                                                                            وهذا ليس بصحيح ، لأن صفة العلة مستخرجة من الفرع وحكم العلة مستخرج من الأصل ، والجمع بينهما موضوع لحكم العلة دون صفتها .

                                                                                                                                            ومثل هذا نقوله في الماء المطلق إذا خالطه مائع طاهر كماء الورد فلم يغيره نظر : فإن كان الماء أكثر حكم له بالتطهير وإن كان فيه ما ليس بمطهر وإن كان ماء الورد أكثر حكم بأنه غير مطهر وإن كان فيه ما هو مطهر .

                                                                                                                                            فإن سلم أبو حنيفة هذا الحكم ولا أحسبه يمتنع منه وخالف في الاسم لم تضر مخالفته في الاسم مع موافقته في معناه .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفي الصفتين والصفتان معدومتان في الفرع وصفة الفرع تقارب إحدى الصفتين وإن خالفتها .

                                                                                                                                            مثاله في المعقول : أن يكون أحد الأصلين معلولا بالبياض والأصل الآخر معلولا بالسواد والفرع أخضر ليس بأبيض ولا أسود فيرد إلى أقرب الأصلين شبها بصفته والخضرة أقرب إلى السواد من البياض فيرد إلى السواد دون البياض .

                                                                                                                                            ومثاله في الشرع قوله تعالى في جزاء الصيد : فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة : 95 ] .

                                                                                                                                            وليس المثل من النعم مشبها للصيد في جميع أوصافه ولا منافيا له في جميع أوصافه فاعتبر في الجزاء أقرب الشبه بالصيد .

                                                                                                                                            ومنع أبو حنيفة أن يكون هذا قياسا لأن القياس ما وجدت أوصاف أصله في فرعه وأوصاف الأصل في هذا غير موجودة في الفرع فصار قياسا بغير علة .

                                                                                                                                            وهذا ليس بصحيح ، لأن الحادثة لا بد لها من حكم والحكم لا بد له من دليل ، فإذا لم يكن في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع دليل عليها لم يبق لها أصل غير القياس فكان أقربها شبها بأصل القياس هو علة القياس .

                                                                                                                                            [ ص: 151 ] وقد جعله بعض أصحابنا اجتهادا محضا ولم يجعله قياسا ، وهذا الاجتهاد لا بد له من أصل يعتبر فيه شبه الأصل فصار قياسا .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفي الصفتين ، والفرع جامع لصفتي الأصلين ، وأحد الأصلين من جنس الفرع ، والآخر من غير جنسه .

                                                                                                                                            مثاله : أن يكون الفرع من الطهارة وأحد الأصلين من الصلاة والآخر من الطهارة ، فيكون رده إلى أصل الطهارة لمجانسته أولى من رده إلى أصل الصلاة مع مخالفته .

                                                                                                                                            وهاهنا ضرب رابع اختلف أصحابنا في جواز وجوده وهو أن يتردد الفرع بين أصلين فيه شبه كل واحد من الأصلين ، وشبهه في كل واحد من الأصلين ولا يترجح أحدهما على الآخر بشيء .

                                                                                                                                            فمنع كثير من أصحابنا من جوازه وأحال تكافؤ الأدلة لأنه لا يجوز أن يتعبد الله عباده بما لم يجعل لهم طريقا توصلهم إلى علمه ، ولكن ربما خفي على المستدل لقصوره في الاجتهاد فإن أعوزه الترجيح بين الأصلين عدل إلى التماس حكمه من غير القياس .

                                                                                                                                            وذهب كثير منهم إلى جواز وجوده لأنه لما جاز أن يكون من الأدلة غامضا لما علمه فيها من المصلحة جاز أن يكون فيها متكافئا لما رآه من المصلحة وليس يخلو أن يكون لها حكم مع التكافؤ .

                                                                                                                                            فعلى هذا اختلفوا في حكم ما تكافأت فيه الأدلة وتردد بين أصلين : حاظر ومبيح على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن المجتهد بالخيار في رده إلى أي الأصلين شاء من حظر أو إباحة ، لأن الله تعالى لو لم يرد كل واحد منهما لنصب على مراده منهما دليلا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه يرده إلى أغلظ الأصلين حكما وهو الحظر دون الإباحة احتياطا لأن أصل التكليف موضوع على التغليظ .

                                                                                                                                            فصارت أقسام القياس ما شرحناه : اثني عشر قسما : ستة أقسام منها مختصة بقياس المعنى منها ثلاثة أقسام في القياس الجلي وثلاثة أقسام منها في القياس الخفي وستة أقسام منها مختصة بقياس الشبه منها ثلاثة أقسام في قياس التحقيق وثلاثة أقسام في قياس التقريب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية