الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المسألة الثانية

[ الصلوات التي يتعلق النهي عن فعلها فيها ]

اختلف العلماء في الصلاة التي لا تجوز في هذه الأوقات فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها لا تجوز في هذه الأوقات صلاة بإطلاق لا فريضة مقضية ولا سنة ولا نافلة إلا عصر يومه ، قالوا : فإنه يجوز أن يقضيه عند غروب الشمس إذا نسيه .

واتفق مالك والشافعي أنه يقضي الصلوات المفروضة في هذه الأوقات ، وذهب الشافعي إلى أن الصلوات التي لا تجوز في هذه الأوقات هي النوافل فقط التي تفعل لغير سبب ، وأن السنن مثل صلاة الجنازة تجوز في هذه الأوقات ، ووافقه مالك في ذلك بعد العصر وبعد الصبح : [ أعني : في السنن ] ، وخالفه في التي تفعل لسبب مثل ركعتي المسجد ، فإن الشافعي يجيز هاتين الركعتين بعد العصر وبعد الصبح ، ولا يجيز ذلك مالك ، واختلف قول مالك في جواز السنن عند الطلوع والغروب .

وقال الثوري في الصلوات التي لا تجوز في هذه الأوقات : هي ما عدا الفرض ولم يفرق سنة من نفل ، فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال : 1 - قول : هي الصلوات بإطلاق . 2 - وقول : إنها ما عدا الفروض سواء كانت سنة أو نفلا . 3 - وقول : إنها النفل دون السنن . وعلى الرواية التي منع مالك فيها صلاة الجنائز عند الغروب قول رابع ، وهو أنها النفل فقط بعد الصبح والعصر ، والنفل والسنن معا عند الطلوع والغروب .

وسبب الخلاف في ذلك اختلافهم في الجمع بين العمومات المتعارضة في ذلك ( أعني الواردة في السنة ) وأي يخص بأي ، وذلك أن عموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : " إذا نسي أحدكم الصلاة فليصلها إذا [ ص: 90 ] ذكرها " يقتضي استغراق جميع الأوقات ، وقوله في أحاديث النهي في هذه الأوقات : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فيها " يقتضي أيضا عموم أجناس الصلوات المفروضات والسنن والنوافل ، فمتى حملنا الحديثين على العموم في ذلك وقع بينهما تعارض هو من جنس التعارض الذي يقع بين العام ، والخاص ، إما في الزمان ، وإما في اسم الصلاة .

فمن ذهب إلى الاستثناء في الزمان : ( أعني استثناء الخاص من العام ) منع الصلوات بإطلاق في تلك الساعات ، ومن ذهب إلى استثناء الصلاة المفروضة المنصوص عليها بالقضاء من عموم اسم الصلاة المنهي عنها منع ما عدا الفرض في تلك الأوقات ، وقد رجح مالك مذهبه من استثناء الصلوات المفروضة من عموم لفظ الصلاة بما ورد من قوله - عليه الصلاة والسلام - " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " ولذلك استثنى الكوفيون عصر اليوم من الصلوات المفروضة ، لكن قد كان يجب عليهم أن يستثنوا من ذلك صلاة الصبح أيضا للنص الوارد فيها ، ولا يردوا ذلك برأيهم من أن المدرك لركعة قبل الطلوع يخرج للوقت المحظور ، والمدرك لركعة قبل الغروب يخرج للوقت المباح .

وأما الكوفيون فلهم أن يقولوا إن هذا الحديث ليس يدل على استثناء الصلوات المفروضة من عموم اسم الصلاة التي تعلق النهي بها في تلك الأيام ; لأن عصر اليوم ليس في معنى سائر الصلوات المفروضة ، وكذلك كان لهم أن يقولوا في الصبح لو سلموا أنه يقضى في الوقت المنهي عنه ، فإذا الخلاف بينهم آيل إلى أن المستثنى الذي ورد به اللفظ هل هو من باب الخاص أريد به الخاص أم من باب الخاص أريد به العام ؟ وذلك أن من رأى أن المفهوم من ذلك هي صلاة العصر والصبح فقط المنصوص عليهما ، فهو عنده من باب الخاص أريد به الخاص ، ومن رأى أن المفهوم من ذلك ليس هو صلاة العصر فقط ، ولا الصبح بل هي جميع الصلاة المفروضة ، فهو عنده من باب الخاص أريد به العام ، وإذا كان ذلك كذلك فليس هاهنا دليل قاطع على أن الصلوات المفروضة هي المستثناة من اسم الصلاة الفائتة ، كما أنه ليس ههنا دليل أصلا لا قاطع ولا غير قاطع على استثناء الزمان الخاص الوارد في أحاديث النهي من الزمان العام الوارد في أحاديث الأمر دون استثناء الصلاة الخاصة المنطوق بها في أحاديث الأمر من الصلاة العامة المنطوق بها في أحاديث النهي ، وهذا بين ، فإنه إذا تعارض حديثان في كل واحد منهما عام وخاص لم يجب أن يصار إلى تغليب أحدهما إلا بدليل ( أعني استثناء خاص هذا من عام ذاك أو خاص ذاك من عام هذا ) وذلك بين والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية