الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        367 - الحديث السابع : عن { ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من حلف على يمين بملة غير الإسلام ، كاذبا متعمدا ، فهو كما قال ، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة ، وليس على رجل نذر فيما لا يملك . } وفي رواية { ولعن المؤمن كقتله . } وفي رواية { من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها ، لم يزده الله عز وجل إلا قلة . }

                                        التالي السابق


                                        [ ص: 645 ] فيه مسائل :

                                        المسألة الأولى : الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله " والله ، والرحمن " ، وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كما يقول الفقهاء : إذا حلف بالطلاق على كذا ، ومرادهم : تعليق الطلاق به وهذا مجاز وكأن سببه مشابهة هذا التعليق باليمين في اقتضاء الحنث أو المنع . إذا ثبت هذا ، فنقول : قوله عليه السلام { من حلف على يمين بملة غير الإسلام } يحتمل أن يراد به المعنى الأول ، ويحتمل أن يراد به المعنى الثاني ، والأقرب أن المراد الثاني ، لأجل قوله " كاذبا متعمدا " والكذب يدخل القضية الإخبارية التي يقع مقتضاها تارة ، وتارة لا يقع . وأما قولنا " والله " وما أشبهه فليس الإخبار بها عن أمر خارجي وهي للإنشاء - أعني إنشاء القسم - فتكون صورة هذا اليمين على وجهين :

                                        أحدهما : أن يتعلق بالمستقبل كقوله " إن فعلت كذا فهو يهودي ، أو نصراني " .

                                        والثاني : أن يتعلق بالماضي ، مثل أن يقول " إن كنت فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني " . فأما الأول - وهو ما يتعلق بالمستقبل - فلا تتعلق به الكفارة عند المالكية والشافعية ، وأما عند الحنفية : ففيها الكفارة ، وقد يتعلق الأولون بهذا الحديث فإنه لم يذكر كفارة ، وجعل المرتب على ذلك قوله " هو كما قال " . وأما إن تعلق بالماضي : فقد اختلف الحنفية فيه . فقيل : إنه لا يكفر ، اعتبارا بالمستقبل وقيل : يكفر ; لأنه تنجيز معنى ، فصار كما إذا قال " هو يهودي " ، قال بعضهم : والصحيح أنه لا يكفر فيهما إن كان يعلم أنه يمين ، وإن كان عنده أنه يكفر بالحلف يكفر فيهما ; لأنه رضي بالكفر ، حيث أقدم على الفعل .



                                        المسألة الثانية : قوله عليه السلام { ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة } هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية . ويؤخذ منه : أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم ; لأن نفسه ليست ملكا له ، وإنما هي ملك لله تعالى فلا يتصرف فيها إلا أذن له فيه . قال [ ص: 646 ] القاضي عياض : وفيه دليل لمالك ومن قال بقوله ، على أن القصاص من القاتل بما قتل به ، محددا كان أو غير محدد - خلافا لأبي حنيفة - اقتداء بعقاب الله عز وجل لقاتل نفسه في الآخرة ، ثم ذكر حديث اليهودي ، وحديث العرنيين .

                                        وهذا الذي أخذه من هذا الحديث في هذه المسألة : ضعيف جدا ; لأن أحكام الله تعالى لا تقاس بأفعاله وليس كل ما فعله في الآخرة بمشروع لنا في الدنيا ، كالتحريق بالنار ، وإلساع الحيات والعقارب ، وسقي الحميم المقطع للأمعاء . وبالجملة : فما لنا طريق إلى إثبات الأحكام إلا نصوص تدل عليها ، أو قياس على المنصوص عند القياسيين ومن شرط ذلك : أن يكون الأصل المقيس عليه حكما ، أما ما كان فعلا لله تعالى فلا ، وهذا ظاهر جدا وليس ما نعتقده فعلا لله تعالى في الدنيا أيضا بالمباح لنا فإن لله أن يفعل ما يشاء بعباده ، ولا حكم عليه ، وليس لنا أن نفعل بهم إلا ما أذن لنا فيه ، بواسطة أو بغير واسطة .



                                        المسألة الثالثة : التصرفات الواقعة قبل الملك للشيء على وجهين :

                                        أحدهما : تصرفات التنجيز كما لو أعتق عبد غيره ، أو باعه ، أو نذر نذرا متعلقا به فهذه تصرفات لاغية اتفاقا ، إلا ما حكي عن بعضهم في العتق خاصة ، أنه إذا كان موسرا : يعتق عليه ، وقيل : إنه رجع عنه .

                                        الثاني : التصرفات المتعلقة بالملك ، كتعلق الطلاق بالنكاح مثلا ، فهذا مختلف فيه فالشافعي يلغيه كالأول ومالك وأبو حنيفة يعتبرانه . وقد يستدل للشافعي بهذا الحديث وما يقاربه ، ومخالفوه يحملونه على التنجيز ، أو يقولون بموجب الحديث ، فإن التنفيذ إنما يقع بعد الملك ، فالطلاق - مثلا - لم يقع قبل الملك ، فمن هنا يجيء القول بالموجب .

                                        وههنا نظر دقيق في الفرق بين الطلاق - أعني تعليقه بالملك - وبين النذر في ذلك فتأمله . واستبعد قوم تأويل الحديث وما يقاربه بالتنجيز ، من حيث إنه أمر ظاهر جلي لا تقوم به فائدة يحسن حمل اللفظ عليها ، وليست جهة هذا الاستبعاد بقوية فإن الأحكام كلها : في الابتداء كانت منتفية ، وفي أثنائها فائدة متجددة ، وإنما حصل الشيوع والشهرة لبعضها فيما بعد ذلك وذلك لا ينفي [ ص: 647 ] حصول الفائدة عند تأسيس الأحكام .



                                        المسألة الرابعة : قوله عليه السلام { ولعن المؤمن كقتله } فيه سؤال ، وهو أن يقال : إما أن يكون كقتله في أحكام الدنيا ، أو في أحكام الآخرة ؟ لا يمكن أن يكون المراد أحكام الدنيا ; لأن قتله يوجب القصاص ، ولعنه لا يوجب ذلك ، وأما أحكام الآخرة : فإما أن يراد بها التساوي في الإثم ، أو في العقاب ؟ وكلاهما مشكل ; لأن الإثم يتفاوت بتفاوت مفسدة الفعل ، وليس إذهاب الروح في المفسدة كمفسدة الأذى باللعنة ، وكذلك العقاب يتفاوت بحسب تفاوت الجرائم قال الله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } وذلك دليل على التفاوت في العقاب والثواب ، بحسب التفاوت في المصالح والمفاسد فإن الخيرات مصالح والمفاسد شرور .

                                        قال القاضي عياض : قال الإمام - يعني المازري - : الظاهر من الحديث تشبيهه في الإثم ، وهو تشبيه واقع ; لأن اللعنة قطع عن الرحمة ، والموت قطع عن التصرف قال القاضي ، وقيل : لعنته تقتضي قصده بإخراجه من جماعة المسلمين ، ومنعهم منافعه ، وتكثير عددهم به كما لو قتله ، وقيل : لعنته تقتضي قطع منافعه الأخروية عنه ، وبعده منها بإجابة لعنته فهو كمن قتل في الدنيا ، وقطعت عنه منافعه فيها ، وقيل : الظاهر من الحديث : تشبيه في الإثم ، وكذلك ما حكاه من أن معناه : استواؤهما في التحريم ، وأقول : هذا يحتاج إلى تلخيص ونظر . أما ما حكاه عن الإمام - من أن معناه استواؤهما في التحريم - فهذا يحتمل أمرين :

                                        أحدهما : أن يقع التشبيه والاستواء في أصل التحريم والإثم .

                                        والثاني : أن يقع في مقدار الإثم .

                                        فأما الأول : فلا ينبغي أن يحمل عليه ; لأن كل معصية - قلت أو عظمت - فهي مشابهة أو مستوية مع القتل في أصل التحريم ، فلا يبقى في الحديث كبير فائدة ، مع أن المفهوم منه : تعظيم أمر اللعنة بتشبيهها بالقتل .

                                        وأما الثاني : فقد بينا ما فيه من الإشكال وهو التفاوت في المفسدة بين إزهاق الروح وإتلافها ، وبين الأذى باللعنة ، وأما ما حكاه عن الإمام - من قوله : إن اللعنة قطع عن الرحمة ، والموت قطع [ ص: 648 ] عن التصرف - فالكلام عليه أن نقول : اللعنة قد تطلق على نفس الإبعاد الذي هو فعل الله تعالى وهذا الذي يقع فيه التشبيه .

                                        والثاني : أن تطلق اللعنة على فعل اللاعن ، وهو طلبه لذلك الإبعاد بقوله " لعنه الله " مثلا ، أو بوصفه للشخص بذلك الإبعاد بقوله " فلان ملعون " وهذا ليس بقطع عن الرحمة بنفسه ، ما لم تتصل به الإجابة ، فيكون حينئذ تسببا إلى قطع التصرف ، ويكون نظيره : التسبب إلى القتل ، غير أنهما يفترقان في أن التسبب إلى القتل بمباشرة الحز وغيره من مقدمات القتل : مفض إلى القتل بمطرد العادة فلو كان مباشرة اللعن مفضيا إلى الإبعاد الذي هو اللعن دائما : لاستوى اللعن مع مباشرة مقدمات القتل ، أو زاد عليه وبهذا يتبين لك الإيراد على ما حكاه القاضي ، من أن لعنته له : تقتضي قصده إخراجه عن جماعة المسلمين ، كما لو قتله فإن قصده إخراجه لا يستلزم إخراجه كما يستلزم مقدمات القتل ، وكذلك أيضا ما حكاه من أن لعنته تقتضي قطع منافعه الأخروية عنه بإجابة دعوته : إنما يحصل ذلك بإجابة الدعوة ، وقد لا تجاب في كثير من الأوقات فلا يحصل انقطاعه عن منافعه ، كما يحصل بقتله ولا يستوي القصد إلى القطع بطلب الإجابة ، مع مباشرة مقدمات القتل المفضية إليه في مطرد العادة ، ويحتمل ما حكاه القاضي عن الإمام وغيره ، أو بعضه : أن لا يكون تشبيها في حكم دنيوي ، ولا أخروي ، بل يكون تشبيها لأمر وجودي بأمر وجودي كالقطع . والقطع - مثلا في بعض ما حكاه - أي قطعه عن الرحمة ، أو عن المسلمين بقطع حياته وفيه بعد ذلك نظر ، والذي يمكن أن يقرر به ظاهر الحديث في استوائهما في الإثم : أنا نقول : لا نسلم أن مفسدة اللعن مجرد أذاه ، بل فيها - مع ذلك - تعريضه لإجابة الدعاء فيه ; بموافقة ساعة لا يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه كما دل عليه الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم { لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أموالكم ولا تدعوا على أولادكم لا توافقوا ساعة } - الحديث " وإذا عرضه باللعنة لذلك : وقعت الإجابة ، وإبعاده من رحمة الله تعالى : كان ذلك أعظم من قتله ; لأن القتل تفويت الحياة [ ص: 649 ] الفانية قطعا ، والإبعاد من رحمة الله تعالى : أعظم ضررا بما لا يحصى ، وقد يكون أعظم الضررين على سبيل الاحتمال مساويا أو مقاربا لأخفهما على سبيل التحقيق . ومقادير المفاسد والمصالح وأعدادهما : أمر لا سبيل للبشر إلى الاطلاع على حقائقه .




                                        الخدمات العلمية