الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب الجمع في السفر عن سالم عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير وعن نافع عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء وللشيخين من حديث أنس كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما .

                                                            ولمسلم من حديث معاذ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء .

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 121 ] باب الجمع في السفر عن سالم عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير وعن نافع عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء ( فيه ) فوائد .

                                                            ( الأولى ) أخرجه من الطريق الأولى الشيخان والنسائي من طريق سفيان بن عيينة بهذا اللفظ والبخاري أيضا من طريق شعيب بن أبي حمزة ومسلم من طريق يونس بن يزيد بلفظ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء ثلاثتهم عن الزهري عن سالم وأخرجه الزهري من طريق كثير بن قاوند عن سالم عن أبيه في جمعه بين الظهر والعصر حين كان بين الصلاتين وبين المغرب والعشاء حين اشتبكت النجوم وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضر أحدكم الأمر الذي يخاف فوته فليصل هذه الصلاة وأخرجه من الطريق الثانية مسلم والنسائي من طريق مالك عن نافع وأخرجه مسلم أيضا من طريق يحيى القطان والترمذي من طريق عبدة بن سليمان كلاهما عن عبيد الله عن نافع أن ابن عمر كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق ويقول إن رسول الله [ ص: 122 ] صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء لفظ مسلم ولفظ الترمذي أنه استغيث على بعض أهله فجد به السير وأخر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما ثم أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إذا جد به السير وقال حسن صحيح ورواه أبو داود من طريق أيوب عن نافع أن ابن عمر استصرخ على صفية وهو بمكة فسار حتى غربت الشمس وبدت النجوم فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به أمر في سفر جمع بين هاتين الصلاتين فسار حتى غاب الشفق فنزل فجمع بينهما .

                                                            ورواه النسائي من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير أو حزبه أمر جمع بين المغرب والعشاء ومن طريق ابن جابر عن نافع عن ابن عمر في خروجه معه إلى صفية بنت أبي عبيد وفيه حتى إذا كان في آخر الشفق نزل فصلى المغرب ثم أقام العشاء وقد توارى الشفق فصلى بنا ثم أقبل علينا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به السير صنع هكذا ومن طريق إسماعيل بن عبد الرحمن شيخ من قريش عن ابن عمر في جمعه بين المغرب والعشاء حين ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل .

                                                            وأخرجه البخاري في الحج والجهاد في صحيحه من طريق زيد بن أسلم عن أبيه قال كنت مع ابن عمر بطريق مكة فبلغه عن صفية بنت أبي عبيد شدة وجع فأسرع السير حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعتمة جمع بينهما ثم قال إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير أخر المغرب وجمع بينهما .

                                                            ( الثانية ) قوله في الرواية الأولى جد به السير أي اشتد به السير قال في المحكم جد به الأمر أي اشتد وقال القاضي عياض في المشارق جد به السير أي أسرع وعجل في الأمر الذي يريده انتهى .

                                                            وما ذكرته أولى لأن الذي في الحديث نسبة الجد إلى السير وفي كلام القاضي نسبة الجد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاللفظ الواقع في الحديث إما أن يراد به الاشتداد كما نقلته عن صاحب المحكم وإما أن ينسب الجد إلى السير على سبيل التوسع ، والإسراع في الحقيقة إنما هو من النبي صلى الله عليه وسلم ويكون هذا على حد قولهم نهاره صائم وليله قائم فينسب الصيام إلى النهار والقيام إلى [ ص: 123 ] الليل لوقوعه فيهما وفي الحقيقة إنما هو من الفاعل فمعنى قوله جد به السير جد في السير ويوافق هذا قوله في رواية أخرى إذا جد في السير قال في الصحاح الجد الاجتهاد في الأمور تقول منه جد في الأمر يجد ويجد أي بكسر الجيم وضمها وأجد في الأمر مثله قال الأصمعي يقال إن فلانا لجاد مجد باللغتين جميعا وقال في المحكم جد في أمره يجد ويجد جدا وأجد حقق وقال في المشارق الجد المبالغة في الشيء انتهى .

                                                            ويأتي هذان الاحتمالان في قوله في الرواية الثانية عجل به السير إما أن يضمن عجل معنى اشتد وإما أن تكون نسبة العجل إلى السير مجازا وتوسعا والأصل عجل في السير .

                                                            ( الثالثة ) فيه جواز الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في هذه الحالة وهي الجد في السفر والاستعجال فيه وتقدم من سنن النسائي الجمع بين الظهر والعصر أيضا وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب وفي رواية للبخاري كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر وفي رواية لمسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما وفي رواية له إذا عجل عليه السير يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما أو يؤخر المغرب حتى يجمع بينهما وبين العشاء حين يغيب الشفق وفي صحيح البخاري تعليقا وصحيح مسلم موصولا عن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاءلفظ البخاري ولم يقل مسلم إذا كان على ظهر سير وزاد قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس ما حمله على ذلك قال أراد أن يخرج أمته فزاد في حديثي أنس وابن عباس الجمع بين الظهر والعصر وأما اقتصار ابن عمر رضي الله عنهما في الرواية المشهورة عنه على ذكر الجمع بين المغرب والعشاء فسببه أنه ذكر ذلك جوابا لقضية وقعت له فإنه استصرخ على زوجته فذهب مسرعا وجمع بين المغرب والعشاء فذكر ذلك بيانا لأنه فعله على وفق السنة فلا دلالة فيه لعدم الجمع بين الظهر والعصر فقد رواه أنس وابن عباس ومعاذ وغيرهم من [ ص: 124 ] الصحابة رضي الله عنهم وفي صحيح مسلم وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا وفي لفظ له جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء زاد في الموطإ وسنن أبي داود والنسائي وصحيح ابن حبان فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا قال ابن عبد البر هذا حديث صحيح ثابت الإسناد .

                                                            وفي سنن أبي داود والترمذي وصحيح ابن حبان وغيرهما عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر إلى العصر فيصليهما جميعا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعا ثم سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب قال الترمذي حديث حسن وقال البيهقي هو محفوظ صحيح انتهى ففي حديث معاذ الجمع بين الظهر والعصر أيضا ولم يقيد ذلك بأن يعجل به السفر بل صرح في رواية الموطإ وأبي داود وغيرهما بالجمع وهو غير سائر بل نازل ماكث في خبائه يخرج فيصلي الصلاتين جميعا ثم ينصرف إلى خبائه قال الشافعي رحمه الله في الأم بعد ذكره هذه الرواية وهذا وهو نازل غير سائر لأن قوله دخل ثم خرج لا يكون إلا وهو نازل فللمسافر أن يجمع نازلا ومسافرا انتهى وفي رواية أبي داود والترمذي وغيرهما التصريح بجمع التقديم والتأخير في الظهر والعصر وفي المغرب والعشاء وقد كانت غزوة تبوك في أواخر الأمر سنة تسع من الهجرة وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال : أحدها جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بعذر السفر جمع تقديم في وقت الأولى منهما وجمع تأخير في وقت الثانية منهما وبه قال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه والجمهور إلا أن المشهور من مذهب مالك اختصاص الجمع بحالة الجد في السير لخوف فوات أمر أو لإدراك مهم وبه قال أشهب وقال ابن الماجشون وابن حبيب وأصبغ إن الجد لمجرد قطع السفر مبيح للجمع وروى ابن أبي شيبة في مصنفه الجمع بين الصلاتين [ ص: 125 ] في السفر عن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبي موسى الأشعري وأسامة بن زيد وغيرهم وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس وابن عمر وطاوس ومجاهد وعكرمة وأبي ثور وإسحاق قال وبه أقول وقال البيهقي الجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين مع الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن أصحابه ثم ما أجمع عليه المسلمون من جميع الناس بعرفة ثم بالمزدلفة وروي في ذلك عن عمر وعثمان ثم روي عن زيد بن أسلم وربيعة ومحمد بن المنكدر وأبي الزناد أنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر إذا زالت الشمس وحكاه ابن عبد البر عن عطاء بن أبي رباح وسالم بن عبد الله وجمهور علماء المدينة وحكاه ابن بطال عن جمهور العلماء وحكاه ابن قدامة في المغني عن أكثر أهل العلم وحكاه أبو العباس القرطبي عن جماعة السلف وفقهاء المحدثين .

                                                            ( القول الثاني ) اختصاص ذلك بحالة الجد في السفر لخوف فوات أمر أو لإدراك مهم وهو المشهور عن مالك كما تقدم وتمسك هؤلاء بظاهر حديث ابن عمر هذا وجوابه أن في حديث غيره زيادة يجب الأخذ بها وهي الجمع من غير جد في السفر قال ابن عبد البر بعد ذكر حديث معاذ الذي سبق ذكره من الموطإ وغيره : في هذا أوضح الدلائل وأقوى الحجج في الرد على من قال لا يجمع المسافر بين الصلاتين إلا إذا جد به السير وهو قاطع للالتباس قال وليس فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء ما يعارضه لأنه إذا كان له الجمع نازلا غير سائر فالذي يجد به السير أحرى بذلك وإنما يتعارضان لو كان في أحدهما أنه قال لا يجمع المسافر بين الصلاتين إلا أن يجد به السير وفي الآخر أنه جمع نازلا غير سائر فإما أن يجمع وقد جد به السير ويجمع وهو نازل لم يجد به السير فليس هذا بمتعارض عند أحد له فهم قال وقد أجمع المسلمون على الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة فكل ما اختلفت فيه من مثله فمردود إليه وروى مالك عن ابن شهاب أنه قال سألت سالم بن عبد الله هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر ؟ فقال نعم لا بأس بذلك ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة ؟ فهذا سالم قد نزع بما ذكرنا وهو أصل صحيح لمن ألهم رشده ولم تمل به العصبية إلى المعاندة انتهى .

                                                            وحكى أبو العباس القرطبي عدم [ ص: 126 ] اشتراط الجد في السفر عن جمهور السلف وعلماء الحجاز وفقهاء المحدثين وأهل الظاهر .

                                                            ( القول الثالث ) كالذي قبله في الاختصاص بحالة الجد في السفر لكن لا يختص ذلك بأن يكون سبب الجد خوف فوات أمر أو إدراك مهم بل كان الجد لمجرد قطع المسافة كان الحكم كذلك وهذا قول جماعة من المالكية كما تقدم وفي مصنف ابن أبي شيبة قوله تعالى عن أسامة بن زيد أنه كان إذا عجل به السير جمع بين الصلاتين وعن سالم بن عبد الله بن عمر أنه سئل عن الجمع بين الصلاتين في السفر فقال لا إلا أن تعجلني سير وحكى ابن عبد البر عن الليث بن سعد أنه لا يجمع إلا من جد به السير وقال أبو بكر بن العربي إن قول ابن حبيب هذا هو قول الشافعي لأن السفر نفسه إنما هو لقطع الطريق انتهى وفيما قاله نظر فإن الماكث في المنزلة ليس قاطعا للطريق وكذلك من هو سائر إلا أنه لا استعجال به بل هو يسير على هينته فهو أن يجوز الشافعي لهما الجمع ولا يجوزه لهما ابن حبيب ومن قال بقوله ولعل صاحب هذا القول أسعد بحديث ابن عمر من القول الذي قبله فإن الذي في حديث ابن عمر اعتبار الجد في السفر من غير سبب مخصوص لذلك ولا يقال إنما يكون الجد لخوف فوات أمر أو إدراك مهم فقد يكون الجد لمجرد قطع المسافة والاستراحة من متاعب السفر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل إلى أهله لكن زاد حديث معاذ على ذلك ببيان الجمع في زمن الإقامة التي لا تقطع اسم السفر فوجب الأخذ به كما تقدم والله أعلم .

                                                            ( القول الرابع ) أنه لا يجمع بين الصلاتين إلا من عذر رواه ابن أبي شيبة عن الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وحكاه ابن عبد البر عن الأوزاعي وقال لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع ، قال وعن الثوري نحو هذا وعنه أيضا ما يدل على الجواز وإن لم يجد السير انتهى وفي مصنف ابن أبي شيبة عن جابر بن زيد ما أرى أن يجمع بين الصلاتين إلا من أمر فجعل صاحب هذا القول الجد في السير مثالا للعذر والاعتبار بالعذر بأي وجه كان ويقول الجمهور السفر نفسه عذر ومظنة للرخصة فنيط الحكم بمجرده والله أعلم .

                                                            ( القول الخامس ) منع الجمع بعذر السفر مطلقا وإنما يجوز للنسك بعرفة ومزدلفة وهذا قول الحنفية بل زاد أبو حنيفة [ ص: 127 ] على صاحبيه وقال لا يجمع للنسك إلا إذا صلى في الجماعة فإن صلى منفردا صلى كل صلاة في وقتها وقال أبو يوسف ومحمد المنفرد في ذلك كالمصلي جماعة وحكى ابن قدامة في المغني هذا عن رواية ابن القاسم عن مالك واختياره وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن إبراهيم النخعي قال كان الأسود وأصحابه ينزلون عند وقت كل صلاة في السفر فيصلون المغرب لوقتها ثم يتعشون ثم يمكثون ساعة ثم يصلون العشاء وعن الحسن وابن سيرين أنهما قالا ما نعلم من السنة الجمع بين الصلاتين في حضر ولا سفر إلا بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بجمع وعن عمر وأبي موسى أنهما قالا الجمع بين الصلاتين بغير عذر من الكبائر وروي هذا مرفوعا من حديث ابن عباس رواه الترمذي وهو ضعيف وأجاب هؤلاء عن أحاديث الجمع بأن المراد بها أن يصلي الأولى في آخر وقتها والأخرى في أول وقتها وهذا مردود بوجهين :

                                                            ( أحدهما ) أنه وردت الروايات مصرحة بالجمع في وقت إحداهما فمنها ما تقدم من صحيح مسلم من حديث ابن عمر جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق ومنها قوله في حديث أنس أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما وحديث معاذ صريح في جمعي التقديم والتأخير في الظهر والعصر وفي المغرب والعشاء وهذه الأحاديث لا يمكن معها التأويل الذي ذكروه .

                                                            ( الثاني ) أن الجمع رخصة فلو كان على ما ذكروه لكان أشد ضيقا وأعظم حرجا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن الإتيان بكل صلاة في وقتها أوسع من مراعاة طرفي الوقتين بحيث لا يبقى من وقت الأولى إلا قدر فعلها ومن تدبر هذا وجده واضحا كما وصفنا ثم لو كان الجمع هكذا لجاز الجمع بين العصر والمغرب والعشاء والصبح ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك والعمل بالأحاديث على الوجه السابق إلى الفهم منها أولى من هذا التكلف الذي لا حاجة إليه واحتج هؤلاء بما رواه الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قط صلاة لغير وقتها إلا المغرب والصبح بالمزدلفة فإنه أخر المغرب حتى جمعها مع العشاء وصلى الصبح قبل الفجر وقالوا إن مواقيت الصلاة تثبت بالتواتر فلا يجوز تركها بخبر واحد والجواب عن حديث ابن مسعود أنه متروك [ ص: 128 ] الظاهر بالإجماع من وجهين :

                                                            ( أحدهما ) أنه قد جمع بين الظهر والعصر بعرفة بلا شك وقد ورد التصريح بذلك في بعض طرق حديث ابن مسعود فلم يصح هذا الحصر ( وثانيهما ) أنه لم يقل أحد بظاهره في إيقاع الصبح قبل الفجر والمراد أنه بالغ في التعجيل حتى قارب ذلك ما قبل الفجر ثم إن غير ابن مسعود حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين الصلاتين في السفر بغير عرفة ومزدلفة ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ولم يشهد وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر والجواب عن قولهم لا يترك المتواتر بالآحاد بأنا لم نتركها وإنما خصصناها وتخصيص المتواتر بالآحاد جائز بالإجماع وقد جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد إجماعا فتخصيص السنة بالسنة أولى بالجواز والله أعلم .

                                                            وذكر الشافعي قول عمر جمع الصلاتين من غير عذر من الكبائر وقال العذر يكون بالسفر والمطر وليس هذا ثابتا عن عمر وهو مرسل .

                                                            ( القول السادس ) جواز التأخير ومنع جمع التقديم وهو رواية عن أحمد قال ابن قدامة وروي نحوه عن سعد وابن عمر وعكرمة قال ابن بطال وهو قول مالك في المدينة وبهذا قال ابن حزم الظاهري بشرط الجد في السفر واعتماد هؤلاء على أن جمع التقديم لم يذكر في حديثي ابن عمر وأنس وإنما ذكر فيهما جمع التأخير وتأكد ذلك بقوله في حديث أنس فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب ولم يذكر صلاة العصر وجوابه أنه لا يلزم من عدم ذكرها أن لا يكون صلاها مع الظهر وقد ورد التصريح بجمع التقديم في حديث معاذ وغيره فوجب المصير إليه وحمل بعضهم حديث أنس على أن معناه صلى الظهر والعصر قال لأنه عليه السلام إنما كان يؤخر الظهر إلى العصر إذا لم تزغ الشمس فكذلك يقدم العصر إلى الظهر إن زاغت الشمس ذكره ابن بطال وقد ورد التصريح بذلك من حديث أنس بسند لا بأس به في معجم الطبراني الأوسط ولفظه إذا كان في سفر فزاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر جميعا وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس جمع بينهما في أول وقت العصر وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء وحكى ابن العربي أن اللؤلؤي حكى عن أبي داود أنه قال ليس في تقديم الوقت حديث قائم ا هـ [ ص: 129 ] وليس ذلك في روايتنا لسنن أبي داود من طريق اللؤلؤي وضعف ابن حزم حديث معاذ في جمع التقديم وقد بسطت الرد عليه في ذلك في كراسة كتبتها قديما سميتها الدليل القويم على صحة جمع التقديم .



                                                            (الرابعة) غاية ما دل عليه هذا الحديث جواز الجمع فأما رجحانه وكونه أفضل من إيقاع كل صلاة في وقتها فلا دلالة فيه عليه فلعله عليه الصلاة والسلام بين بذلك الجواز أو فعله على سبيل الترخص والتوسع وإن كان الأفضل خلافه وقد صرح أصحابنا الشافعية بذلك وقالوا إن ترك الجمع أفضل وقال الغزالي إنه لا خلاف في المذهب فيه وعللوه بالخروج من الخلاف فإن أبا حنيفة وجماعة من التابعين لا يجوزونه وعن أحمد بن حنبل في ذلك روايتان وزاد مالك رحمه الله على ما قاله أصحابنا من أن الأفضل ترك الجمع فقال إن الجمع مكروه رواه المصريون عنه كما قاله ابن العربي واحتج له بتعارض الأدلة وقال ابن شاس في الجواهر وقع في العتبية قال مالك أكره جمع الصلاتين في السفر فحمله بعض المتأخرين على إيثار الفضل لئلا يتسهل فيه من لا يشق عليه وقال ابن الحاجب في مختصره لا كراهة على المشهور وحكى أبو العباس القرطبي عن مالك رواية أخرى أنه كره الجمع للرجال دون النساء وقال الخطابي كان الحسن ومكحول يكرهان الجمع في السفر بين الصلاتين انتهى فإن أراد بالكراهة التحريم فهو القول الخامس المحكي في الفائدة الثالثة وإن أراد التنزيه فهو موافق لهذا المحكي عن مالك .



                                                            (الخامسة) لم يبين في حديث ابن عمر ولا في غيره من الأحاديث هل كان يفعل ذلك في كل سفر أو كان يخص به السفر الطويل وهو سفر القصر لكن قد يقال إن الظاهر من الجد في السفر أنه إنما يكون في الطويل والحق أن هذه واقعة عين محتملة فلا يجوزالجمع في السفر القصير مع الشك في ذلك ومذهب مالك أنه لا يختص ذلك بالطويل ومذهب أحمد بن حنبل اختصاصه به وللشافعي في ذلك قولان أصحهما اختصاصه بالطويل والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية