الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      الطائفة الخامسة : الجبرية الذين يعتقدون أن العبد مجبور على أفعاله قسرا ، ولا فعل له أصلا ، بل إثبات الفعل للعبد هو عين الشرك عندهم ، بل هو كالهاوي من أعلى إلى أسفل ، وكالسعفة تحركها الريح لم يعمل باختياره طاعة ولا معصية ، ولم يكلفه الله وسعه ، بل حمله ما لا طاقة له به ، ولم يخلق فيه اختيارا لأفعاله ، ولا قدرة له عليها ، بل الطاعة والعصيان من الأقوال والأعمال ، هي عندهم عين فعل الله عز وجل ، فرفعوا اللوم عن كل كافر ، وفاسق وعاص ، وأنه يعذبهم على نفس فعله لا على أعمالهم القبيحة ، ثم اعتقدوا أن المعاصي التي نهى الله عنها في كتبه وعلى ألسنة رسله إذا عملوها صارت طاعات ; لأنهم يقولون أطعنا مشيئة الله الكونية فينا ، بل لم يثبتوا الإرادة الشرعية البتة ، ومن يثبتها منهم يقول في الطاعات أطعنا الإرادة الشرعية ، وفي المعاصي التي سماها الله معاصي أطعنا الإرادة الكونية ، وأما هم فلم يثبتوا معصية أصلا ، بل أفعالهم جميعها حسنها ، وقبيحها كلها عندهم طاعات على أصلهم هذا الفاسد ، وفي ذلك رد منهم على الله - تعالى - أمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، وفرضه على عباده جهاد الكفار وإقامة الحدود ، بل في إرساله الرسل وإنزاله الكتب ، فيجب عندهم تعطيل الشرائع بالكلية ، والاحتجاج على نفيها بالقدر الكوني ، ومحاربتها به ، وإثبات الحجة على الله لكل كافر وفاسق وعاص ، وهذا كفر لم يسبقهم إليه غير إمامهم إبليس اللعين ، إذ يحتج على الله - تعالى - بحجتهم هذه فقال : ( فبما أغويتني ) ، والعجب أن هذا المذهب المخذول موروث عن جهم بن صفوان مع تناقضه في إثبات أفعال الله عز وجل ، فإنه لا يثبت لله - تعالى - فعلا يقوم بذاته أصلا ، بل أفعاله خارجة عنه قائمة بغيره من المخلوقات ، ثم ينقض ذلك بجعله أفعال العباد أفعال الله ، وهذا تناقض بين [ ص: 373 ] لكل عاقل ، فإن الفعل إنما يضاف إلى من قام به ، والقول إلى من قاله ، وكذا السمع والبصر والقدرة ، وغيرها محال أن تضاف إلى غير من قامت به ، ومحال أن يسمى فاعلا بدون فعل يقوم به ، ولو ذهبنا نعد تشعب الفرق من هذه الطوائف ولوازم كل قول مما انتحلوه ، لاحتاج إلى كتاب مفرد ، وقد أفرد ذلك بالتصنيف غير واحد من الأئمة ، وقد قدمنا البعض من ذلك ، وذكرنا أمثلة من تحريفهم النصوص ، وسيأتي الكلام على الدهرية في الإيمان بالبعث ، وعلى نفاة القدر والغلاة فيه في باب القدر ، والكلام على الخوارج ، والمرجئة ، والمعتزلة ، وأشباههم في باب الإيمان والدين ، والكلام على الروافض ، والنواصب في باب ذكر الصحابة ، وهذه الطوائف التي خالفت في توحيد المعرفة والإثبات مرجعها إلى ثلاث : فالحلولية ، والاتحادية ، والسلبية ، ومن في معناهم مرجعهم إلى الطبائعية الدهرية ، والقدرية النفاة بجميع فرقهم مرجعهم إلى المجوس الثنوية ، والجبرية الغلاة مرجعهم إلى النزعة الجهمية الإبليسية ، وقد قدمنا قول المؤمنين أتباع الرسل مبسوطا بما فيه كفاية .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية