الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 67 ] الفصل الثاني .

        في ذكر عدد من إليه الاختيار والعقد .

        82 - فنجري على الترتيب المقدم والملتزم ، ونبدأ بالمقطوع به ، فنقول : مما يقطع به أن الإجماع ليس شرطا في عقد الإمامة بالإجماع .

        والذي يوضح ذلك أن أبا بكر - رضي الله عنه - صحت له البيعة ; فقضى وحكم ، وأبرم وأمضى ، وجهز الجيوش ، وعقد الألوية ، وجر العساكر إلى مانعي الزكاة ، وجبى الأموال ، وفرق منها ، ولم ينتظر في تنفيذ الأمور انتشار الأخبار في أقطار خطة الإسلام ، وتقرير البيعة من الذين لم يكونوا في بلدة الهجرة .

        وكذلك جرى الأمر في إمامة الخلفاء الأربعة .

        فهذا مما لا يستريب فيه لبيب .

        والذي يعضد ذلك علمنا على اضطرار أن الغرض من نصب الإمام حفظ الحوزة ، والاهتمام بمهمات الإسلام ، ومعظم الأمور الخطيرة لا يقبل الريث والمكث ، ولو أخر النظر فيه لجر ذلك [ ص: 68 ] خللا لا يتلافى ، وخبلا متفاقما لا يستدرك ، فاستبان من وضع الإمامة استحالة اشتراط الإجماع في عقدها .

        فهذا هو المقطوع به من الفصل .

        ونفتتح الآن ما نراه مجتهدا فيه .

        83 - ذهب بعض العلماء إلى أن الإمامة تنعقد ببيعة اثنين من أهل الحل والعقد .

        واشترط طوائف عدد أكمل البينات في الشرع ; وهو أربعة .

        وذهب بعض من لا يعد من أحزاب الأصوليين إلى اشتراط أربعين ، وهو عدد الجمعة عند الشافعي - رضي الله عنه .

        84 - وهذه المذاهب لا أصل لها من مأخذ الإمامة : فأما من ذكر اثنين ، فالذي تخيله أن هذا العدد أقل الجمع ، فلا بد من اجتماع جمع على البيعة .

        ومن شرط أربعة قال : الإمامة من أعلى الأمور ، وأرفع الخطوب ، فيعتبر فيها عدد أعلى البينات .

        ومن ادعى الأربعين استمسك بقريب ما قدمناه ، واعتبر من [ ص: 69 ] يقتدي بإمام المسلمين بمن يقتدي بإمام الجمعة .

        وهذه المسالك من أضعف طرق الأشباه ، وهي أدون فنون المقاييس في الشرع ، ولست أرى أن أحكم بها في مواقع الظنون ومظان الترجيح والتلويح ، فما الظن بمنصب الإمامة ؟ ولو تتبع المتتبع الأعداد المعتبرة في مواقع الشرع ، لم يعدم وجوها بعيدة عن التحصيل في التشبيه .

        85 - وأقرب المذاهب ما ارتضاه القاضي أبو بكر ، وهو المنقول عن شيخنا أبي الحسن - رضي الله عنهما - وهو أن الإمامة تثبت بمبايعة رجل واحد من أهل العقد .

        ووجه هذا المذهب أنه تقرر أن الإجماع ليس شرطا في عقد الإمامة ، ثم لم يثبت توقيف في عدد مخصوص . والعقود في الشرع مولاها عاقد واحد ، وإذا تعدى المتعدي الواحد ، فليس عدد أولى من عدد ، ولا وجه للتحكم في إثبات عدد مخصوص ، فإذا لم يقم دليل على [ ص: 70 ] عدد لم يثبت العدد ، وقد تحققنا أن الإجماع ليس شرطا ، فانتفى الإجماع بالإجماع ، وبطل العدد بانعدام الدليل عليه ، فلزم المصير إلى الاكتفاء بعقد الواحد .

        وظاهر قول القاضي يشير إلى أن ذلك مقطوع به ، وهذا وإن كان أظهر المذاهب في ذلك ، فلسنا نراه بالغا مبلغ القطع .

        86 - وها أنا الآن أذكر ما يلوح عندي في هذا الفصل ، وفيه ذكر كلام ينعطف على الفصل الأول ، فأقول : - الذي أراه أن أبا بكر لما بايعه عمر لو ثار ثائرون ، وأبدوا صفحة الخلاف ، ولم يرضوا تلك البيعة ، لما كنت أجد متعلقا في أن الإمامة كانت تستقل ببيعة واحد ، وكذلك لو فرضت بيعة اثنين أو أربعة فصاعدا ، وقدرت ثوران مخالفين ، لما وجدت متمسكا به اكتراث واحتفال ، في قاعدة الإمامة .

        ولكن لما بايع عمر تتابعت الأيدي ، واصطفقت الأكف ، واتسعت الطاعة ، وانقادت الجماعة .

        87 - فالوجه عندي في ذلك أن يعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع ، تحصل بهم شوكة ظاهرة ، ومنعة [ ص: 71 ] قاهرة ، بحيث لو فرض ثوران خلاف ، لما غلب على الظن أن يصطلم أتباع الإمام ، فإذا تأكدت البيعة ، وتأطدت بالشوكة والعدد والعدد ، واعتضدت ، وتأيدت بالمنة ، واستظهرت بأسباب الاستيلاء والاستعلاء ، فإذا ذاك تثبت الإمامة ، وتستقر ، وتتأكد الولاية وتستمر ، ولما بايع عمر مالت النفوس إلى المطابقة والموافقة ، ولم يبد أحد شراسا وشماسا ، وتظافروا على بذل الطاعة على حسب الاستطاعة ، وبتعين اعتبار ما ذكرته بأني سأوضح في بعض الأبواب الآتية أن الشوكة لا بد من رعايتها .

        88 - ومما يؤكد ذلك اتفاق العلماء قاطبة ، على أن رجلا من أهل الحل والعقد ، لو استخلى بمن صلح للإمامة ، وعقد له البيعة لم تثبت الإمامة . وسنذكر ذلك في مختتم هذا الفصل .

        وسبب تعلقي بذلك أن مثل هذا لو قدر لم تستتب منه شوكة ، ولم تثبت به سلطنة ، فلئن كنا نتبع ما جرى ، فقد كانت البيعة على هذه القضية التي وصفتها ، وظهر اعتبار حصول الشوكة ; فليتبع ذلك .

        89 - ثم أقول : إن بايع رجل واحد مرموق ، كثير الأتباع [ ص: 72 ] والأشياع ، مطاع في قومه ، وكانت منعته تفيد ما أشرنا إليه ، انعقدت الإمامة . وقد يبايع رجال لا تفيد مبايعتهم شوكة ومنة قهرية ، فلست أرى للإمامة استقرارا .

        والذي أجزته ليس شرط إجماع ، ولا احتكاما بعدد ، ولا قطعا بأن بيعة الواحد كافية .

        90 - وإنما اضطربت المذاهب في ذلك لوقوع البيعة لأبي بكر مبهمة من غير اختصاص بعدد ، ولم يتجه إحالة إنبرام العقد على بيعة واحد ; فتفرقت الطرق ، وأعوص مسلك الحق على معظم الناظرين في الباب .

        والذي ذكرته ينطبق على مقصد الإمامة وسرها ، فإن الغرض حصول الطاعة ، وهو موافق للإبهام الذي جرى في البيعة .

        فرحم الله ناظرا انتهى إلى هذا المنتهى فجعل جزاءنا منه دعوة بخير .

        91 - والذي ينصرف من مساق هذا الكلام إلى الفصل الأول ، المنطوي على ذكر صفة من يعقد ، إلى اشتراط ما ذكره القاضي . فلا أرى لاشتراط كون العاقد مجتهدا وجها لائحا ، ولكني أشترط أن يكون المبايع ممن يفيد مبايعته منة واقتهارا .

        فهذا ما أردنا بيانه في ذلك .

        [ ص: 73 ] 92 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن الأئمة - رضي الله عنهم - كما اختلفوا في عدد العاقد اضطربوا في اشتراط حضور الشهود : فرأى بعضهم أن حضور الشاهد ليس شرطا ، وشرط آخرون حضور الشهود ، وهو اختيار القاضي أبي بكر - رحمه الله .

        93 - واحتج هؤلاء بأن قالوا : لو كانت البيعة تنعقد سرا ، لعقد من هو من أهل الحل والعقد ، وإن لم يشهد العاقد والمعقود له شهود .

        وزيف القاضي هذا المذهب الأول ، وتناهى مبالغا في الرد على معتقده ، وسلك مسلك القطع فيما زعم ; فقال : لو استخلى عمر بالبيعة لأبي بكر - رضي الله عنه - لما استقرت الإمامة ; إذ لو كانت تستقر ، وتثبت على هذا الوجه ، لما حضرا - رضي الله عنهما - السقيفة ، ولبادر عمر عقد البيعة لأبي بكر قبل حضور الأشهاد .

        94 - ثم الذين صاروا إلى منع عقد الإمامة على الاستخلاء [ ص: 74 ] اختلفوا ; فذهب بعضهم إلى أنه يكفي حضور شاهدين ، كعقد النكاح ، ولم يكتف القاضي بالشاهدين ، بل اشترط أن يشهد الأمر أقوام يقع بحضورهم الإشاعة والنشر والإذاعة .

        95 - ولا ينتهي الأمر عندي إلى حد القطع في الرد على من يصير إلى انعقاد الإمامة في الاستخلاء ، وما تعلق به القاضي - رحمه الله - من أن عمر - رضي الله عنه - لم يبايع أبا بكر - رضي الله عنه - في الخلوة . قلنا : يمكن حمل ذلك على وجه في الاستصواب ; فإنه لو عقد سرا فربما يتفق عقد في العلانية جهرا ، وعقد السر سابق ، وكان الشرع يقتضي تقديم عقد السر .

        ثم ربما كان الأمر ينجر إلى إنكار وجحود ، ونزاع في مقصود ; ومس الحاجة إلى شهود . وقد ندبنا إلى الإشهاد على البيوع ، فكان تأخير عقد البيعة إلى الإعلان لهذا الشأن .

        96 - فأما لو فرض رجل عظيم القدر ، رفيع المنصب ، ثم صدرت [ ص: 75 ] منه بيعة لصالح لها سرا ، وتأكدت الإمامة لهذا السبب بالشوكة العظمى ، فلست أرى إبطال الإمامة والحالة هذه قطعا . ولكن المسألة مظنونة مجتهد فيها ، ومعظم مسائل الإمامة عرية عن مسلك القطع ، خلية عن مدارك اليقين .

        انتهى مبلغ غرضنا من صفات العاقدين وعددهم .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية