الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثاني : القدرية فرقتان .

الأولى : تنكر ما ذكرنا من سبق العلم بالأشياء قبل وجودها ، وتزعم أن الله لم يقدر الأمور أزلا ، ولم يتقدم علمه بها ، وإنما يأتنفها علما حال وقوعها ، وكانوا يقولون : إن الله أمر العباد ونهاهم ، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه ، ولا من يدخل الجنة ممن يدخل النار حتى فعلوا ذلك ، فعلمه بعد ما فعلوه ; ولهذا قالوا : الأمر أنف ، أي مستأنف ، يقال : روض أنف إذا كانت وافية لم ترع قبل ذلك ، يعني أنه يستأنف العمل السعيد والشقي ، ويبتدئ ذلك من غير أن يكون قد تقدم بذلك علم ولا كتاب ، فلا يكون العمل على ما قدر ، فيحتذي به حذو القدر ، بل هو أمر مستأنف مبتدأ ، والواحد من الناس إذا أراد أن يعمل عملا قدر في نفسه ما يريد عمله ، ثم يوقعه كما قدر في نفسه ، وربما أظهر ما قدره في الخارج بصورته ، ويسمى هذا التقدير الذي في النفس خلقا ، ومنه قول الشاعر :

ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض الناس يخلق ثم لا يفري



يقول : إذا قدرت أمرا أمضيته وأنفذته ، بخلاف غيرك ، فإنه عاجز عن إمضاء ما يقدره ، والرب تعالى أولى . قال الله - تعالى - : إنا كل شيء خلقناه بقدر وهو - سبحانه - يعلم قبل أن يخلق الأشياء كل ما سيكون ، وهو يخلق بمشيئته ، فهو يعلمه ويريده ، وإرادته - تعالى - قائمة بنفسه ، وقد يتكلم به ويخبر به ، كما في قوله - تعالى - : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وقال : ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى وقال : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون وقال : [ ص: 301 ] ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم الآية ، وهو سبحانه كتب ما يقدره فيما يقدره فيه كما قال - تعالى - : ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير قال ابن عباس - رضي الله عنهما - إن الله - تعالى - خلق الخلق وعلم ما هم عاملون ، ثم قال لعلمه كن كتابا فكان كتابا ، ثم أنزل تصديق ذلك في هذه الآية وفي الآية الأخرى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير قال العلماء : والمنكرون لهذا انقرضوا ، وهم الذين كفرهم عليه الإمام مالك ، والإمام الشافعي ، والإمام أحمد وغيرهم من الأئمة - رضي الله عنهم - ، وهم الذين قال فيهم الشافعي : إن سلم القدرية العلم خصموا .

يعني يقال لهم : أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم ؟ فإن منعوا وافقوا أهل السنة ، وإن أجازوا لزمهم نسبة الجهل إلى الله - تعالى - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . وقد قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - في قوله - تعالى - : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح هذه حجة على القدرية .

قال الإمام المحقق ابن القيم في البدائع : أراد القدرية المنكرة للعلم بالأشياء قبل كونها ، وهم غلاتها الذين كفرهم السلف ، وإلا فلا تعرض فيها لمسألة خلق الأفعال . انتهى . قال القرطبي : قد انقرض هذا المذهب فلا نعرف أحدا ينسب إليه من المتأخرين . الثانية من فرقتي القدرية : المقرون بالعلم ، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : القدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها ، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال ، وهو مع كونه مذهبا باطلا أخف من المذهب الأول ، قال : والمتأخرون منهم أنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فرارا من تعلق القديم بالمحدث . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - : وأما هؤلاء - يعني الفرقة الثانية - فإنهم مبتدعون ضالون لكنهم ليسوا بمنزلة أولئك ، قال : وفي هؤلاء خلق كثير من العلماء والعباد ، كتب عنهم ، وأخرج البخاري ومسلم لجماعة منهم ، لكن من كان داعية لم يخرجوا له ، وهذا مذهب فقهاء الحديث كالإمام أحمد وغيره ، ومن كان داعية إلى بدعة فإنه يستحق العقوبة لدفع ضرره عن الناس [ ص: 302 ] ، وإن كان في الباطن مجتهدا ، فأقل عقوبته أن يهجر ، فلا يكون له مرتبة في الدين ، فلا يؤخذ عنه العلم ولا يستقضى ، ولا تقبل شهادته ونحو ذلك ; ولهذا لم يخرج أصحاب الصحيح لمن كان داعية ، ولكن رووا هم وسائر أهل العلم عن كثير ممن كان يرى في الباطن رأي القدرية والمرجئة والخوارج والشيعة . وقال الإمام أحمد : لو تركنا الرواية عن القدرية لتركنا أكثر أهل البصرة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - برد الله مضجعه - : هذا لأن مسألة خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات مسألة مشكلة ; ولهذا القدرية من المعتزلة وغيرهم أخطئوا فيها ، وقد أخطأ أيضا كثير ممن رد عليهم ; لأنهم سلكوا في ردهم عليهم مسلك جهم بن صفوان وأتباعه ، فنفوا حكمة الله في خلقه وأمره ، ونفوا رحمته بعباده ، ونفوا ما جعله سبحانه من الأسباب خلقا وأمرا وغير ذلك .

وهؤلاء القدرية فرطوا غاية التفريط ، بحيث إنهم نفوا أن يكون الله - تعالى - خالقا لأفعال عباده ، فأثبتوا خالقا غيره مستقلا بالخلق ، والأمر دونه ، تعالى الله عن ذلك وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية