الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي ) بضم معجمة وفتح موحدة ( عن ثابت عن أنس بن مالك قال : خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين ) كذا في أكثر الروايات ، وفي رواية مسلم تسع سنين ، ولعله أسقط السنة المبتدأة ، وكان عمره حينئذ عشر سنين وسيأتي تحقيقه ( فما قال لي أف ) بضم الهمزة وفتح فاء مشددة وكسرها بلا تنوين وبه ، فهذه الثلاثة مقروء بها في السبع ، وذكر القاضي وغيره فيها عشرة لغات : فتح الفاء وضمها وكسرها بلا تنوين وبالتنوين فهذه ست ، وبضم الهمزة وإسكان الفاء وبكسر الهمزة وفتح الفاء ، وأفي وأفة بضم همزتهما .

وهو اسم فعل بمعنى أتضجر وأتكره قال ميرك : وأصل الأف وسخ الظفر والأذن ويقال لكل ما يتضجر أو يستثقل : أف له ، ويستوي فيه الواحد التثنية والجمع المذكر والمؤنث قال تعالى : فلا تقل لهما أف وقد ذكر أبو الحسن الكرماني فيها تسع وثلاثون لغة وزاد ابن عطية واحدة فأكملها أربعين على ما بينه ميرك في شرحه ( قط ) بفتح قاف وتشديد طاء مضمومة كذا في الأصول أي : أبدا أو جاز فيه [ ص: 191 ] ضم الطاء المشددة مع فتح أوله ، وضمه وفتح فسكون أو كسر مع التشديد وعدمه ، وهي لتوكيد نفي الماضي ( وما قال لشيء صنعته ) أي : مما لا ينبغي صنعه أو على وجه لا يليق فعله ( لم صنعته ) أي : لأي شيء صنعته ( ولا لشيء تركته لم تركته ) وفي رواية لمسلم ولا قال لي لشيء لم فعلت وهلا فعلت كذا ، وفي رواية البخاري ولا لم صنعت كذا وألا صنعت بفتح الهمزة وتشديد اللام بمعنى هلا ، وفي رواية لمسلم لشيء مم يصنعه الخادم وعنده أيضا مما علمته قال لشيء صنعته لم فعلت كذا ولشيء تركته هلا فعلت كذا وعند البخاري من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس ما قال لشيء صنعته لم صنعت هذا كذا ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا كذا أو هذا من كمال خلقه - صلى الله عليه وسلم - وتفويض أمره وملاحظة تقدير ربه ، وأما تجويز ابن حجر تبعا للحنفي وغيره أنه من كمال أدب أنس فبعيد جدا من سياق الحديث وعنوان الباب ، ولعدم تصور ولد عمره عشر سنين يخدم عشر سنين لا يقع منه ما يوجب تأفيفه ولا تقريعه مع أن المقام يقتضي مدحته - عليه السلام - لا مدح نفسه في هذا الكلام ثم اعلم أن ترك اعتراضه - عليه السلام - بالنسبة إلى أنس إنما هو لغرض فيما يتعلق بآداب خدمته له - صلى الله عليه وسلم - وحقوق ملازمته بناء على حلمه لا فيما يتعلق بالتكاليف الشرعية الموجبة للحقوق الربانية ولا فيما يختص بحقوق غيره من الأفراد الإنسانية ، والله سبحانه أعلم ( وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقا ) قيل : " من " زائدة ولا نحتاج إليه ؛ إذ لا يلزم من وجودها وجود غيره أحسن منه ؛ لأنك إذا قلت : زيد من أفضل علماء البلد لم يناف ذلك كونه أفضلهم إذ الأفضل المعدد بعضه أفضل من بعض ، وقيل : لأن ( كان ) للاستمرار والدوام فإذا كان دائما من أحسن الناس خلقا كان أحسن الناس خلقا انتهى ، وكان مرادهم أن سائر الخلق ولو حسن خلقهم أحيانا ساء خلقهم زمانا بخلاف حسن خلقه - عليه السلام - فإنه كان على الدوام كما يدل عليه الجملة الاسمية في القرآن الكريم وإنك لعلى خلق عظيم فبطل تعقب ابن حجر بقوله تأمل يظهر لك ما فيه مما لا يخفى على ذوي ذوق سليم .

قال [ ص: 192 ] قال ميرك : وقد ضبطناه بضم الخاء ، وهو الأنسب للمقام ؛ لأنه إنما أخبر عن حسن معاشرته ، قلت : هذا إنما هو بالنسبة إلى السابق دون نسبتها إلى اللاحق ، ولهذا قال العلامة الكرماني ويحتمل أن يكون المراد بأحسن الناس حسن الخلقة ، وهو تابع لاعتدال المزاج الذي يتبعه صفاء النفس الذي هو جودة القريحة الذي نشأ عنه الحكمة ، نعم الأظهر أنه بالضم ، والله أعلم ؛ فقد قال الحسن البصري : حقيقة حسن الخلق بذل المعروف ، وكف الأذى وطلاقة الوجه ، وقال القاضي عياض هو مخالطة الناس بالجميل ، وقال العسقلاني : هو اختيار الفضائل واجتناب الرذائل ، وقد سبق في العنوان ما يستغني عن زيادة البيان ثم هو تعميم بعد تخصيص لئلا يتوهم اختصاصه بأنس ونحوه ( ولا مسست ) بكسر السين وبفتح أي ما لمست ( خزا ) بفتح خاء معجمة وتشديد زاي ، قيل : الخز اسم دابة ثم سمي المتخذ من وبرها فيكون فروا ناعما على ما في منهاج اللغة ، وفي النهاية : الخز : ثياب يعمل من صوف وإبريسم ، قال ابن حجر : الخز مركب من حرير وغيره ، وهو مباح إن لم يزد الحرير وزنا ، ولا عبرة بزيادة الظهور فقط ، انتهى ، ومذهبنا أنه إن كان السدى حريرا واللحمة غيره فهو مباح وعكسه حرام إلا في الحرب ( ولا حريرا ) أي : خالصا ، وفي بعض النسخ هنا لفظ قط ، وفي بعضها بعد خزا ( ولا شيئا ) تعميم بعد تخصيص ( كان ) أي : كل واحد أو شيء ( ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شممت ) بفتح الميم كذا في أصل السيد ، وفي نسخة بكسرها ، وقال ابن حجر : بكسر الميم الأولى ، ويجوز فتحها انتهى ، والأصح أنهما متساويان ففي القاموس : الشم حسن الأنف شممته بالكسر أشمه بالفتح وشممته بالفتح أشمه بالضم ( مسكا ) وهو طيب معروف ( قط ولا عطرا ) بكسر فسكون : مطلق الطيب فهو تعميم بعد تخصيص ( كان أطيب من عرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) والعرق بفتحتين معروف ، وفي نسخة بفتح عين وسكون راء ففاء ، والمعتمد الأول .

وكان طيب عرقه - صلى الله عليه وسلم - مما أكرمه الله سبحانه حتى كان بعض النساء يأخذنه ويتعطرن به وكان من أطيب طيبهن .

قال العلماء : ومع كون هذه الريح الطيبة صفته وإن لم يمس طيبا كان يستعمل الطيب في كثير من الأوقات مبالغة في طيب ريحه لملاقاة الملائكة وأخذ الوحي الكريم ومجالسة المسلمين ولفوائد أخرى من الاقتداء وغيره ، وقد ورد ( حبب إلي من دنياكم ثلاث : النساء ، والطيب ، وقرة عيني في الصلاة ) .

ثم اعلم أنه قال العسقلاني : في معظم الروايات عشر ، وفي رواية لمسلم من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس ( والله لقد خدمته تسع سنين ) فقال النووي : لعل ابتداء خدمة أنس في أثناء السنة ففي رواية التسع لم يجبر الكسر واعتبر [ ص: 193 ] السنين الكوامل ، وفي رواية العشر جبرها ، واعتبرها سنة كاملة ، وقال العسقلاني : ولا مغايرة بينهما ؛ لأن ابتداء خدمته له كان بعد قدومه - صلى الله عليه وسلم - المدينة وبعد تزويج أمه أم سليم بأبي طلحة .

ففي البخاري عن أنس قال قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وليس له خادم فأخذ أبو طلحة بيدي . الحديث .

وفيه أن أنسا غلام كيس فيخدمك في الحضر والسفر ، وأشار بالسفر إلى ما وقع في المغازي من البخاري عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب من أبي طلحة لما أراد الخروج إلى خيبر من يخدمه فأحضر له أنسا فأشكل هذا على الحديث الأول ؛ لأن بين قدومه المدينة وبين خروجه إلى خيبر ستة أشهر ، وأجيب بأنه طلب من أبي طلحة من يكون أسن من أنس وأقوى على الخدمة في السفر فعرف أبو طلحة من أنس القوة على ذلك ، وإنما تزوجت أم سليم بأبي طلحة بعد قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأشهر ؛ لأنها بادرت إلى الإسلام ووالد أنس حي فعرف بذلك فلم يسلم ، وخرج في حاجته فقتله عدو له ، وكان أبو طلحة قد تأخر إسلامه فاتفق أنه خطبها فاشترطت عليه أن يسلم فأسلم ، أخرجه ابن سعد بسند حسن فعلى هذا يكون مدة خدمة أنس تسع سنين وأشهر فألغى الكسر مرة وجبره أخرى كذا ذكره ميرك .

وأورد ابن الجوزي في كتاب الوفاء عن أنس قال خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما سبني سبة قط ولا ضربني ضربة قط ولا عبس في وجهي ولا أمرني بأمر قط فتوانيت فعاتبني عليه فإن عاتبني أحد من أهله قال دعوه فلو قدر شيء كان .

التالي السابق


الخدمات العلمية