الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء ، والتصنع للخلق ، والحلف بغير الله ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالمن حلف بغير الله فقد أشرك وقول الرجل للرجل : ما شاء الله وشئت ، وهذا من الله ومنك ، وإنا بالله وبك ، وما لي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل على الله وعليك ، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا ، وقد يكون هذا شركا أكبر ، بحسب قائله ومقصده ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قال له ما شاء الله وما شئت : أجعلتني لله ندا ؟ قل : ما شاء الله وحده وهذا اللفظ أخف من غيره من الألفاظ .

ومن أنواع الشرك سجود المريد للشيخ ، فإنه شرك من الساجد والمسجود له ، والعجب أنهم يقولون : ليس هذا بسجود ، وإنما هو وضع الرأس قدام الشيخ احتراما وتواضعا ، فيقال لهؤلاء : ولو سميتموه ما سميتموه ، فحقيقة السجود وضع الرأس لمن يسجد له ، وكذلك السجود للصنم ، وللشمس ، وللنجم ، وللحجر ، كله وضع الرأس قدامه .

ومن أنواعه ركوع المتعممين بعضهم لبعض عند الملاقاة ، وهذا سجود في اللغة ، وبه فسر قوله تعالى ادخلوا الباب سجدا أي منحنين ، وإلا فلا يمكن الدخول بالجبهة على الأرض ، ومنه قول العرب : سجدت الأشجار ، إذا أمالتها الريح .

ومن أنواعه حلق الرأس للشيخ ، فإنه تعبد لغير الله ، ولا يتعبد بحلق الرأس إلا في النسك لله خاصة .

[ ص: 353 ] ومن أنواعه التوبة للشيخ ، فإنها شرك عظيم ، فإن التوبة لا تكون إلا لله ، كالصلاة ، والصيام ، والحج ، والنسك ، فهي خالص حق الله .

وفي المسند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بأسير ، فقال : اللهم إني أتوب إليك ، ولا أتوب إلى محمد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عرف الحق لأهله .

فالتوبة عبادة لا تنبغي إلا لله ، كالسجود والصيام .

ومن أنواعه : النذر لغير الله ، فإنه شرك ، وهو أعظم من الحلف بغير الله ، فإذا كان من حلف بغير الله فقد أشرك فكيف بمن نذر لغير الله ؟ مع أن في السنن من حديث عقبة بن عامر عنه صلى الله عليه وسلم النذر حلفة .

ومن أنواعه : الخوف من غير الله ، والتوكل على غير الله ، والعمل لغير الله ، والإنابة والخضوع ، والذل لغير الله ، وابتغاء الرزق من عند غيره ، وحمد غيره على ما أعطى ، والغنية بذلك عن حمده سبحانه ، والذم والسخط على ما لم يقسمه ، ولم يجر به القدر ، وإضافة نعمه إلى غيره ، واعتقاد أن يكون في الكون ما لا يشاؤه .

ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى ، والاستغاثة بهم ، والتوجه إليهم .

وهذا أصل شرك العالم ، فإن الميت قد انقطع عمله ، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، فضلا عمن استغاث به وسأله قضاء حاجته ، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها ، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده، كما تقدم ، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه ، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه ، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد ، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن ، وهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها ، وهذه حالة كل مشرك ، والميت محتاج إلى من يدعو له ، ويترحم عليه ، ويستغفر له ، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ، ونسأل لهم العافية والمغفرة ، [ ص: 354 ] فعكس المشركون هذا ، وزاروهم زيارة العبادة ، واستقضاء الحوائج ، والاستغاثة بهم ، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد ، وسموا قصدها حجا ، واتخذوا عندها الوقفة وحلق الرأس ، فجمعوا بين الشرك بالمعبود الحق ، وتغيير دينه ، ومعاداة أهل التوحيد ، ونسبة أهله إلى التنقص للأموات ، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك ، وأولياءه الموحدين له ، الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم وعيبهم ومعاداتهم ، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص ، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا ، وأنهم أمروهم به ، وأنهم يوالونهم عليه ، وهؤلاء هم أعداء الرسل والتوحيد في كل زمان ومكان ، وما أكثر المستجيبين لهم ! ولله خليله إبراهيم عليه السلام حيث يقول واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس .

وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله ، وعادى المشركين في الله ، وتقرب بمقتهم إلى الله ، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده ، فجرد حبه لله ، وخوفه لله ، ورجاءه لله ، وذله لله ، وتوكله على الله ، واستعانته بالله ، والتجاءه إلى الله ، واستغاثته بالله ، وأخلص قصده لله ، متبعا لأمره ، متطلبا لمرضاته ، إذا سأل سأل الله ، وإذا استعان استعان بالله ، وإذا عمل عمل لله ، فهو لله ، وبالله ، ومع الله .

والشرك أنواع كثيرة ، لا يحصيها إلا الله .

ولو ذهبنا نذكر أنواعه لاتسع الكلام أعظم اتساع ، ولعل الله أن يساعد بوضع كتاب فيه ، وفي أقسامه ، وأسبابه ومباديه ، ومضرته ، وما يندفع به .

فإن العبد إذا نجا منه ومن التعطيل وهما الداءان اللذان هلكت بهما الأمم فما بعدهما أيسر منهما ، وإن هلك بهما فبسبيل من هلك ، ولا آسى على الهالكين .

التالي السابق


الخدمات العلمية