الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

الفراسة الثالثة : الفراسة الخلقية . وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم . واستدلوا بالخلق على الخلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله . كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل . وبكبره ، وبسعة الصدر ، وبعد ما بين جانبيه : على سعة خلق صاحبه . واحتماله وبسطته . وبضيقه على ضيقه ، وبخمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها ، وضعف حرارة قلبه . وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة - وهو الشكل - على شجاعته وإقدامه وفطنته . وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته ومكره وخداعه .

ومعظم تعلق الفراسة بالعين . فإنها مرآة القلب وعنوان ما فيه . ثم باللسان . فإنه رسوله وترجمانه . وبالاستدلال بزرقتها مع شقرة صاحبها على رداءته . وبالوحشة التي ترى عليها على سوء داخله وفساد طويته .

وكالاستدلال بإفراط الشعر في السبوطة على البلادة . وبإفراطه في الجعودة على الشر . وباعتداله على اعتدال صاحبه .

وأصل هذه الفراسة : أن اعتدال الخلقة والصورة : هو من اعتدال المزاج والروح . وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال . وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن [ ص: 457 ] الاعتدال : يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال .

هذا إذا خليت النفس وطبيعتها .

ولكن صاحب الصورة والخلقة المعتدلة يكتسب بالمقارنة والمعاشرة أخلاق من يقارنه ويعاشره . ولو أنه من الحيوان البهيم . فيصير من أخبث الناس أخلاقا وأفعالا ، وتعود له تلك طباعا ، ويتعذر - أو يتعسر - عليه الانتقال عنها .

وكذلك صاحب الخلقة والصورة المنحرفة عن الاعتدال يكتسب بصحبة الكاملين بخلطتهم أخلاقا وأفعالا شريفة . تصير له كالطبيعة . فإن العوائد والمزاولات تعطي الملكات والأخلاق .

فليتأمل هذا الموضع ولا يعجل بالقضاء بالفراسة دونه . فإن القاضي حينئذ يكون خطؤه كثيرا . فإن هذه العلامات أسباب لا موجبة . وقد تتخلف عنها أحكامها لفوات شرط ، أو لوجود مانع .

وفراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء : بعينه . وأذنه . وقلبه . فعينه للسيماء والعلامات . وأذنه : للكلام وتصريحه وتعريضه ، ومنطوقه ، ومفهومه ، وفحواه وإشارته . ولحنه وإيمانه ونحو ذلك . وقلبه للعبور : والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه . فيعبر إلى ما وراء ظاهره ، كعبور النقاد من ظاهر النقش والسكة إلى باطن النقد والاطلاع عليه : هل هو صحيح ، أو زغل ؟ وكذلك عبور المتفرس من ظاهر الهيئة والدل ، إلى باطن الروح والقلب ، فنسبة نقده للأرواح من الأشباح كنسبة نقد الصيرفي ينظر للجوهر من ظاهر السكة والنقد .

وكذلك نقد أهل الحديث . فإنه يمر إسناد ظاهر كالشمس على متن مكذوب . فيخرجه ناقدهم ، كما يخرج الصيرفي الزغل من تحت الظاهر من الفضة .

وكذلك فراسة التمييز بين الصادق والكاذب في أقواله وأفعاله وأحواله .

وللفراسة سببان . أحدهما : جودة ذهن المتفرس ، وحدة قلبه ، وحسن فطنته .

والثاني : ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه . فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطئ للعبد فراسة . وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة . وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر . كانت فراسته بين بين .

وكان إياس بن معاوية من أعظم الناس فراسة . وله الوقائع المشهورة . وكذلك [ ص: 458 ] الشافعي رحمه الله . وقيل : إن له فيها تآليف .

ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أمورا عجيبة . وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم . ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما .

أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة ، وأن جيوش المسلمين تكسر ، وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام ، وأن كلب الجيش وحدته في الأموال . وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة .

ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام : أن الدائرة والهزيمة عليهم . وأن الظفر والنصر للمسلمين . وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا . فيقال له : قل إن شاء الله . فيقول : إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا . وسمعته يقول ذلك . قال : فلما أكثروا علي . قلت : لا تكثروا . كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ . أنهم مهزومون في هذه الكرة . وأن النصر لجيوش الإسلام . قال : وأطمعت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو .

وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر .

ولما طلب إلى الديار المصرية ، وأريد قتله - بعدما أنضجت له القدور ، وقلبت له الأمور - اجتمع أصحابه لوداعه . وقالوا : قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك . فقال : والله لا يصلون إلى ذلك أبدا . قالوا : أفتحبس ؟ قال : نعم ، ويطول حبسي . ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رءوس الناس . سمعته يقول ذلك .

ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك . وقالوا : الآن بلغ مراده منك . فسجد لله شكرا وأطال . فقيل له : ما سبب هذه السجدة ؟ فقال : هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن ، وقرب زوال أمره . فقيل : متى هذا ؟ فقال : لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته . فوقع الأمر مثل ما أخبر به . سمعت ذلك منه .

وقال مرة : يدخل علي أصحابي وغيرهم . فأرى في وجوههم وأعينهم أمورا لا أذكرها لهم .

فقلت له - أو غيري - لو أخبرتهم ؟ فقال : أتريدون أن أكون معرفا كمعرف الولاة ؟

[ ص: 459 ] وقلت له يوما : لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح . فقال : لا تصبرون معي على ذلك جمعة ، أو قال : شهرا .

وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه ، ولم ينطق به لساني .

وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل . ولم يعين أوقاتها . وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها .

وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية