الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما الثالث وهو بيان حكم صيرورة هذه النفقة دينا في ذمة الزوج فنقول إذا فرض القاضي لها نفقة كل شهر أو تراضيا على ذلك ثم منعها الزوج قبل ذلك أشهرا غائبا كان أو حاضرا فلها أن تطالبه بنفقة ما مضى ; لأنها صارت دينا بالفرض أو التراضي ; صارت في استحقاق المطالبة بها كسائر الديون بخلاف نفقة الأقارب إذا مضت المدة ولم تؤخذ أنها تسقط ; لأنها لا تصير دينا رأسا ; لأن وجوبها [ ص: 29 ] للكفاية وقد حصلت الكفاية فيما مضى فلا يبقى الواجب كما لو استغنى بماله فأما وجوب هذه النفقة فليس للكفاية وإن كانت مقدرة بالكفاية .

                                                                                                                                ألا ترى أنها تجب مع الاستغناء بأن كانت موسرة وليس في مضي الزمان إلا الاستغناء فلا يمنع بقاء الواجب ، ولو أنفقت من مالها بعد الفرض أو التراضي لها أن ترجع على الزوج ; لأن النفقة صارت دينا عليه وكذلك إذا استدانت على الزوج لما قلنا سواء كانت استدانتها بإذن القاضي أو بغير إذنه غير أنها إن كانت بغير إذن القاضي ; كانت المطالبة عليها خاصة ولم يكن للغريم أن يطالب الزوج بما استدانت وإن كانت بإذن القاضي ; لها أن تحيل الغريم على الزوج فيطالبه بالدين وهو فائدة إذن القاضي بالاستدانة ، ولو فرض الحاكم النفقة على الزوج فامتنع من دفعها وهو موسر وطلبت المرأة حبسه لها أن تحبسه ; لأن النفقة لما صارت دينا عليه بالقضاء ; صارت كسائر الديون إلا أنه لا ينبغي أن يحبسه في أول مرة تقدم إليه بل يؤخر الحبس إلى مجلسين أو ثلاثة يعظه في كل مجلس يقدم إليه فإن لم يدفع ; حبسه حينئذ كما في سائر الديون لما نذكر في كتاب الحبس إن شاء الله تعالى وإذا حبس لأجل النفقة فما كان من جنس النفقة سلمه القاضي إليها بغير رضاه بالإجماع وما كان من خلاف الجنس لا يبيع عليه شيئا من ذلك ولكن يأمره أن يبيع بنفسه وكذا في سائر الديون في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد يبيع عليه وهي مسألة الحجر على الحر العاقل البالغ نذكرها في كتاب الحجر - إن شاء الله تعالى - فإن ادعى الزوج أنه قد أعطاها النفقة وأنكرت فالقول قولها مع يمينها ; لأن الزوج يدعي قضاء دين عليه وهي منكرة فيكون القول قولها مع يمينها كما في سائر الديون ، ولو أعطاها الزوج مالا فاختلفا فقال الزوج : هو من المهر وقالت هي : هو من النفقة فالقول قول الزوج إلا أن تقيم المرأة البينة ; لأن التمليك منه فكان هو أعرف بجهة التمليك كما لو بعث إليها شيئا فقالت : هو هدية ، وقال : هو من المهر أن القول فيه قوله إلا في الطعام الذي يؤكل - لما قلنا - كذا هذا ، ولو كان للزوج عليها دين فاحتسبت عن نفقتها ; جاز لكن برضا الزوج ; لأن التقاصر إنما يقع بين الدينين المتماثلين ; ألا ترى أنه لا يقع بين الجيد والرديء ودين الزوج أقوى بدليل أنه لا يسقط بالموت ودين النفقة يسقط بالموت فاشتبه الجيد بالرديء فلا بد من المقاصة بخلاف غيرها من الديون والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية