الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما الذي يخص البعض دون البعض فمنها البداية من الشهود في حد الرجم إذا ثبت بالشهادة ، حتى لو امتنع الشهود عن البداية أو ماتوا أو غابوا كلهم أو بعضهم - لا يقام الرجم على المشهود عليه ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد ، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف استحسانا .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أنها ليست بشرط ويقام الرجم على المشهود عليه وهو قول الشافعي - رحمه الله - وهو القياس ، وجه القياس أن الشهود فيما وراء الشهادة وسائر الناس سواء ، ثم لا تشترط البداية من أحد منهم فكذا من الشهود ; ولأن الرجم أحد نوعي الحد فيعتبر بالنوع الآخر وهو الجلد ، والبداية من الشهود ليست بشرط فيه كذا في الرجم .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال : يرجم الشهود أولا ، ثم الإمام ، ثم الناس وكلمة " ثم " للترتيب ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم [ ص: 59 ] ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد ; فيكون إجماعا ; ولأن في اعتبار الشرط احتياطا في درء الحد ; لأن الشهود إذا بدءوا بالرجم - ربما استعظموا فعله فيحملهم ذلك على الرجوع عن الشهادة فيسقط الحد عن المشهود عليه بخلاف الجلد ; لأنا إنما عرفنا البداية شرطا استحسانا بالأثر - فيسقط الحد عليه ، والأثر ورد في الرجم خاصة فيبقى أمر الجلد على أصل القياس ; ولأن الجلد لا يحسنه كل أحد ففوض استيفاؤه إلى الأئمة - بخلاف الرجم ، والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                ومنها أهلية أداء الشهادة للشهود عند الإقامة في الحدود كلها ، حتى لو بطلت الأهلية بالفسق أو الردة أو الجنون أو العمى أو الخرس أو حد القذف ، بأن فسق الشهود أو ارتدوا أو جنوا أو عموا أو خرسوا أو ضربوا حد القذف كلهم أو بعضهم - لا يقام الحد على المشهود عليه ; لأن اعتراض أسباب الجرح على الشهادة عند إمضاء الحد بمنزلة اعتراضها عند القضاء به ، واعتراضها عند القضاء يبطل الشهادة فكذا عند الإمضاء في باب الحدود عن القضاء .

                                                                                                                                وأما موت الشهود وغيبتهم عند الإقامة فلا يمنعان من الإقامة في سائر الحدود إلا الرجم ، حتى لو ماتوا كلهم أو غابوا كلهم أو بعضهم - يقام الحد على المشهود عليه إلا الرجم ; لأنهما ليسا من أسباب الجرح ; لأن أهلية الشهادة لا تبطل بالموت والغيبة بل تتناهى وتتقرر وتختم بها العدالة على وجه لا يحتمل الجرح ، وفي حد الرجم إنما يمنعان الإقامة لا لأنهما يجرحان في الشهادة بل ; لأن البداية من الشهود شرط جواز الإقامة - ولم توجد .

                                                                                                                                وروي عن محمد في الشهود إذا كانوا مقطوعي الأيدي أو بهم مرض لا يستطيعون الرمي - أن الإمام يرمي ، ثم الناس ، وجعل قطع اليد أو المرض عذرا في فوات البداية ، ولم يجعل الموت عذرا فيه ، وإن ثبت الرجم بالإقرار يبدأ به الإمام ، ثم الناس ، والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                ومنها أن لا يكون في إقامة الجلدات خوف الهلاك ; لأن هذا الحد شرع زاجرا لا مهلكا ، فلا يجوز الإقامة في الحر الشديد والبرد الشديد ; لما في الإقامة فيهما من خوف الهلاك ، ولا يقام على مريض حتى يبرأ ; لأنه يجتمع عليه وجع المرض وألم الضرب ; فيخاف الهلاك ، ولا يقام على النفساء حتى ينقضي النفاس ; لأن النفاس نوع مرض ويقام على الحائض ; لأن الحيض ليس بمرض ، ولا يقام على الحامل حتى تضع وتطهر من النفاس ; لأن فيه خوف هلاك الولد والوالدة ، ويقام الرجم في هذا كله إلا على الحامل ; لأن ترك الإقامة في هذه الأحوال للاحتراز عن الهلاك والرجم حد مهلك ، فلا معنى للاحتراز عن الهلاك فيه إلا أنه لا يقام على الحامل ; لأن فيه إهلاك الولد بغير حق .

                                                                                                                                ولا يجمع الضرب في عضو واحد ; لأنه يفضي إلى تلف ذلك العضو ، أو إلى تمزيق جلده ، وكل ذلك لا يجوز ، بل يفرق الضرب على جميع الأعضاء من الكتفين والذراعين والعضدين والساقين والقدمين إلا الوجه والفرج والرأس ; لأن الضرب على الفرج مهلك عادة ، وقد روي عن سيدنا علي رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { اتق وجهه ومذاكيره } والضرب على الوجه يوجب المثلة وقد { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة } ، والرأس مجمع الحواس وفيه العقل فيخاف من الضرب عليه فوات العقل أو فوات بعض الحواس .

                                                                                                                                وفيه إهلاك الذات من وجه وقال أبو يوسف - رحمه الله - أيضا : لا يضرب الصدر والبطن ، ويضرب الرأس سوطا أو سوطين أما الصدر والبطن ; فلأن فيه خوف الهلاك .

                                                                                                                                وأما الرأس ; فلقول سيدنا عمر رضي الله عنه : اضربوا الرأس فإن فيه شيطانا ، والجواب أن الحديث ورد في قتل أهل الحرب خصوصا قوما كانوا بالشام يحلقون أوساط رءوسهم ، ثم تفريق الضرب على الأعضاء مذهبنا ، وقال الشافعي - عليه الرحمة : يضرب كله على الظهر ، وهذا ليس بسديد ; لأن المأمور به هو الجلد وأنه مأخوذ من ضرب الجلد ، والضرب على عضو واحد ممزق للجلد ، وبعد تمزيق الجلد لا يمكن الضرب على الجلد بعد ذلك ; ولأن في الجمع على عضو واحد خوف الهلاك ، وهذا الحد شرع زاجرا لا مهلكا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية