الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في فقه هذه القصة

ففيها : جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين .

[ ص: 558 ] وفيها : تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم أيضا إذا كان ذلك عارضا ، ولا يمكنون من اعتياد ذلك .

وفيها : أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه نبي لا يدخله في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته ، فإذا تمسك بدينه بعد هذا الإقرار لا يكون ردة منه ، ونظير هذا قول الحبرين له ، وقد سألاه عن ثلاث مسائل ، فلما أجابهما ، قالا : نشهد أنك نبي قال : ( فما يمنعكما من اتباعي ؟ ) ، قالا : نخاف أن تقتلنا اليهود ، ولم يلزمهما بذلك الإسلام . ونظير ذلك شهادة عمه أبي طالب له بأنه صادق ، وأن دينه من خير أديان البرية دينا ، ولم تدخله هذه الشهادة في الإسلام .

ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة ، وأنه صادق ، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام ، علم أن الإسلام أمر وراء ذلك ، وأنه ليس هو المعرفة فقط ، ولا المعرفة والإقرار فقط ، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهرا وباطنا .

وقد اختلف أئمة الإسلام في الكافر إذا قال : أشهد أن محمدا رسول الله ولم يزد ، هل يحكم بإسلامه بذلك ؟ على ثلاثة أقوال ، وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد ، إحداها : يحكم بإسلامه بذلك . والثانية : لا يحكم بإسلامه حتى يأتي بشهادة أن لا إله إلا الله . والثالثة : أنه إذا كان مقرا بالتوحيد حكم بإسلامه ، وإن لم يكن مقرا لم يحكم بإسلامه حتى يأتي به ، وليس هذا موضع استيفاء هذه المسألة ، وإنما أشرنا إليه إشارة ، وأهل الكتابين مجمعون على أن نبيا يخرج في آخر الزمان ، وهم ينتظرونه ، ولا يشك علماؤهم في أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، وإنما يمنعهم من الدخول في الإسلام رئاستهم على قومهم وخضوعهم لهم ، وما ينالونه منهم من المال والجاه .

ومنها : جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم ، بل استحباب ذلك ، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم ، وإقامة الحجة [ ص: 559 ] عليهم ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة ، فليول ذلك إلى أهله ، وليخل بين المطي وحاديها ، والقوس وباريها ، ولولا خشية الإطالة لذكرنا من الحجج التي تلزم أهل الكتابين الإقرار بأنه رسول الله بما في كتبهم ، وبما يعتقدونه بما لا يمكنهم دفعه ما يزيد على مائة طريق ، ونرجو من الله سبحانه إفرادها بمصنف مستقل .

ودار بيني وبين بعض علمائهم مناظرة في ذلك ، فقلت له في أثناء الكلام : ولا يتم لكم القدح في نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلا بالطعن في الرب تعالى والقدح فيه ، ونسبته إلى أعظم الظلم والسفه والفساد ، تعالى الله عن ذلك ، فقال كيف يلزمنا ذلك ؟

قلت : بل أبلغ من ذلك ، لا يتم لكم ذلك إلا بجحوده وإنكار وجوده تعالى ، وبيان ذلك أنه إذا كان محمد عندكم ليس بنبي صادق ، وهو بزعمكم ملك ظالم ، فقد تهيأ له أن يفتري على الله ، ويتقول عليه ما لم يقله ، ثم يتم له ذلك ، ويستمر حتى يحلل ويحرم ، ويفرض الفرائض ، ويشرع الشرائع ، وينسخ الملل ، ويضرب الرقاب ، ويقتل أتباع الرسل ، وهم أهل الحق ، ويسبي نساءهم وأولادهم ، ويغنم أموالهم وديارهم ، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض ، وينسب ذلك كله إلى أمر الله تعالى له به ومحبته له ، والرب تعالى يشاهده ، وما يفعل بأهل الحق وأتباع الرسل ، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثا وعشرين سنة ، وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره ، ويعلي أمره ، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر ، وأعجب من ذلك أنه يجيب دعواته ، ويهلك أعداءه من غير فعل منه نفسه ولا سبب ، بل تارة بدعائه ، وتارة يستأصلهم سبحانه من غير دعاء منه - صلى الله عليه وسلم .

ومع ذلك يقضي له كل حاجة سأله إياها ، ويعده كل وعد جميل ، ثم ينجز له وعده على أتم الوجوه وأهنئها وأكملها ، هذا وهو عندكم في غاية الكذب والافتراء والظلم ، فإنه لا أكذب ممن كذب على الله ، واستمر على ذلك ، ولا أظلم ممن أبطل شرائع أنبيائه ورسله ، وسعى في رفعها من الأرض ، وتبديلها بما يريد هو ، وقتل أولياءه وحزبه وأتباع رسله ، واستمرت نصرته عليهم دائما ، والله تعالى في ذلك كله [ ص: 560 ] يقره ، ولا يأخذ منه باليمين ، ولا يقطع منه الوتين ، وهو يخبر عن ربه أنه أوحى إليه أنه لا ( أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ) [ الأنعام : 93 ] ، فيلزمكم معاشر من كذبه أحد أمرين لا بد لكم منهما :

إما أن تقولوا : لا صانع للعالم ، ولا مدبر ، ولو كان للعالم صانع مدبر قدير حكيم ، لأخذ على يديه ، ولقابله أعظم مقابلة ، وجعله نكالا للظالمين ، إذ لا يليق بالملوك غير هذا ، فكيف بملك السماوات والأرض ، وأحكم الحاكمين ؟ .

الثاني : نسبة الرب إلى ما لا يليق به من الجور والسفه والظلم وإضلال الخلق دائما أبد الآباد ، لا ، بل نصرة الكاذب والتمكين له من الأرض ، وإجابة دعواته ، وقيام أمره من بعده ، وإعلاء كلماته دائما ، وإظهار دعوته ، والشهادة له بالنبوة قرنا بعد قرن على رءوس الأشهاد في كل مجمع وناد ، فأين هذا من فعل أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ، فلقد قدحتم في رب العالمين أعظم قدح ، وطعنتم فيه أشد طعن ، وأنكرتموه بالكلية ، ونحن لا ننكر أن كثيرا من الكذابين قام في الوجود ، وظهرت له شوكة ، ولكن لم يتم له أمره ، ولم تطل مدته ، بل سلط عليه رسله وأتباعهم فمحقوا أثره ، وقطعوا دابره ، واستأصلوا شأفته . هذه سنته في عباده منذ قامت الدنيا وإلى أن يرث الأرض ومن عليها .

فلما سمع مني هذا الكلام ، قال : معاذ الله أن نقول إنه ظالم أو كاذب ، بل كل منصف من أهل الكتاب يقر بأن من سلك طريقه ، واقتفى أثره ، فهو من أهل النجاة والسعادة في الأخرى . قلت له : فكيف يكون سالك طريق الكذاب ، ومقتفي أثره بزعمكم من أهل النجاة والسعادة ؟ فلم يجد بدا من الاعتراف برسالته ، ولكن لم يرسل إليهم .

قلت : فقد لزمك تصديقه ، ولا بد وهو قد تواترت عنه الأخبار بأنه رسول رب العالمين إلى الناس أجمعين ، كتابيهم وأميهم ، ودعا أهل الكتاب إلى دينه [ ص: 561 ] وقاتل من لم يدخل في دينه منهم حتى أقروا بالصغار والجزية ، فبهت الكافر ، ونهض من فوره .

والمقصود : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل في جدال الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم إلى أن توفي ، وكذلك أصحابه من بعده ، وقد أمره الله سبحانه بجدالهم بالتي هي أحسن في السورة المكية والمدنية ، وأمره أن يدعوهم بعد ظهور الحجة إلى المباهلة ، وبهذا قام الدين ، وإنما جعل السيف ناصرا للحجة ، وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته ، وهو سيف رسوله وأمته .

التالي السابق


الخدمات العلمية