الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            باب أسباب الحدث

            مسألة : قال بعض المحققين الآن في شرحه في الكلام على الاستتار عند قضاء الحاجة : ويكفي الستر بالوهدة ونحوها وبإرخاء الذيل ، ولا يخفى أن محل عد الستر من الآداب إذا لم يكن بحضرة من يرى عورته ممن لا يحل له نظرها ، أما بحضرته ، فهو واجب ، وكشف عورته بحضرته حرام ، كما صرح به في شرح مسلم ، وجزم به صاحبا التوسط ، والخادم ، والبلقيني في فتاويه وقد قال الشيخ شهاب الدين ابن النقيب في نكته في قوله : ويبعد ويستتر أي : ويستر عورته ، ولو بشجرة .

            وقال الشيخ جمال الدين الأسنوي في القطعة في قوله : ويستتر عن عيون الناس فتحرر أن المراد ستر العورة عن عيون الناظرين ، وقد قال أعني الأسنوي في أثناء الكلام على قوله : يقدم داخل الخلاء يساره والخارج يمينه .

            تنبيه : جميع ما هو مذكور في هذا الباب من الآداب محمول على الاستحباب إلا الاستقبال والاستدبار في الصحراء قاله في شرح المهذب وسنذكر من لفظ المصنف ما يدل عليه فاعلمه ، ثم قال في كلامه على قوله : ويحرمان بالصحراء .

            [ ص: 7 ] تنبيهات : أحدها أن عدول المصنف هنا إلى التحريم دون ما قبله ، وما بعده من الآداب يعرفك عدم تحريمها وهو كذلك كما سبق انتهى ، وقد قالوا في الغسل : إنه يحرم كشف العورة له بحضرة الناس ، والمسؤول بيان ما يعول عليه من ذلك هل هو عدم جواز كشف العورة له بحضرة الناس في قضاء الحاجة والغسل والاستنجاء ؟ أو جواز الكشف لذلك وعلى الناس غض أبصارهم ، وبيان أن الثلاثة على نسق واحد في الجواز وعدمه ، أو أن بعضها مخالف لبعض ، وإذا قلتم : إن بعضها يخالف الباقي فما الفرق ؟ وهل يقال : إن الغسل محل حاجة بدليل أنه يمكن مع الستر بالإزار ، والبول والاستنجاء محل ضرورة في الجملة فيسامح فيهما بما لا يسامح في الغسل ؟ والمسؤول بيان ما يعول عليه من ذلك متفضلين بعزو ما يكون منقولا وبتوجيه غيره لتكمل الفائدة .

            الجواب : المعول عليه تحريم كشف العورة بحضرة الناس في قضاء الحاجة والغسل والاستنجاء ، فالذي قاله الشارح المشار إليه صحيح ، وأما استشكاله بقول الأسنوي : إن جميع ما في الباب محمول على الاستحباب وعد من ذلك الستر ، وفسره بقوله عن عيون الناس فقد تبع في هذه العبارة أكثر الأصحاب ، وقد استشكل ذلك على الأصحاب : الجيلي ، ثم النووي كلاهما في شرح التنبيه فقالا : إن عد ذلك أدبا فيه إشكال ; لأن ستر العورة واجب وعبارة الروضة حسنة ، فإنه قال : أن يستر عورته عن العيون فيمكن حمل العيون على عيون الجن فيصح عد ذلك أدبا بهذا الاعتبار .

            وقد ظهر لي تأويل حسن لعبارة من قال : عن عيون الناس . ذكرته في حاشية الروضة وهو أنه ليس المراد بالناس الحاضرين ، بل من قد يمر من الطارقين حال قضاء الحاجة فخوطب من أراد قضاء الحاجة وهو خال من المارين بالاستعداد للاستتار لاحتمال أنه إذا جلس بلا سترة يمر عليه فجأة مار فيقع بصره على عورته ، وهذا مستحب بلا شك ; لأنه ليس فيه كشف العورة بحضرة أحد وقد يفرغ من حاجته قبل أن يمر أحد ، أو يشعر بمن مر قبل أن يراه فينحرف ، أو يرخي ذيله ، وهذا التأويل حسن ، أو متعين ، فيفسر قولهم : عن عيون الناس . أي : الطارقين بغتة ، لا الحاضرين ، أما الحاضرون فالستر عنهم واجب .

            وحاصل الفرق أن النظر من الحاضرين حاصل في الحال فكان الستر واجبا ، ومن الطارقين متوقع أو متوهم فكان أدبا إذ لا تكليف قبل الحصول ، ويحتمل أن يقال بالتفرقة بين صورة وصورة ، فمن كان قريبا من الناس بحيث يميز البصر عورته حرم الكشف للبول والاستنجاء بحضرتهم [ ص: 8 ] عليه ، ومن كان بعيدا وهم يرونه على بعد من غير تمييز لعورته ولا إدراك للون جلده ، بل إنما يرون شبحا كما يقع كثيرا لمن يستنجي على شطوط الأنهار ، فهذا يظهر أن يقال فيه بالجواز ويظهر أن يقال بالجواز أيضا في صورة وهو أن يأخذه البول وهو في مكان محبوس بين جماعة ولا سبيل إلى جهة يستتر بها ، فهذا يجوز له التكشف للبول وعليهم غض أبصارهم ، وكذا لو احتاج إلى الاستنجاء وقد ضاق وقت الصلاة ، ولم يجد بحضرة الماء مكانا خاليا ، فهذا أيضا يجوز له وعليهم الغض ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية