الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن القاضي ، ثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، حدثني أبو بشر أحمد بن حماد الدولابي - في طريق مصر - قال : حدثني أبو بكر بن إدريس - وراق الحميدي - عن الشافعي ، قال : كنت يتيما في حجر أمي ولم يكن معها ما تعطي المعلم ، وكان المعلم قد رضي مني أخلفه إذا قام ، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد ، فكنت أجالس العلماء ، فأحفظ الحديث ، أو المسألة ، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف ، فكنت أنظر إلى العظم يلوح فأكتب فيه الحديث والمسألة ، وكانت لنا جرة قديمة فإذا امتلأ العظم طرحته في الجرة .

              حدثنا عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن القاضي ، ثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، ثنا محمد بن روح ، قال : سمعت الزبير بن سليمان القرشي ، يذكر عن الشافعي ، قال : طلبت هذا الأمر عن خفة ذات يد ، كنت أجالس الناس ، وأتحفظ ، ثم اشتهيت أن أدون ، وكان منزلنا بمكة بقرب شعب الخيف ، فكنت أجمع العظام والأكتاف فأكتب فيها حتى امتلأ من دارنا ذلك جباب .

              [ ص: 74 ] حدثنا عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن ، ثنا ابن أبي حاتم ، ثنا يونس بن عبد الأعلى قال الشافعي : ما اشتد علي موت أحد من العلماء مثل موت ابن أبي ذيب والليث بن سعد فذكرت ذلك لأبي فقال : ما ظننت أنه أدركهما حتى تأسف عليهما .

              حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهل ، أخبرني محمد بن يحيى بن آدم الجوهري ، ثنا محمد بن عبد الحكم ، قال : سمعت الشافعي ، يقول : قال لي محمد بن الحسن : صاحبنا أعلم أم صاحبكم ؟ قلت : تريد المكابرة أو الإنصاف ؟ قال : بل الإنصاف قال : قلت : فما الحجة عندكم ؟ قال : الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، قال : قلت : أنشدك الله ، أصاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم . قال : إذ أنشدتني بالله فصاحبكم ، قلت : فصاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم ؟ قال : صاحبكم ، قلت : فصاحبنا أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم ؟ قال : فقال : صاحبكم ، قال : قلت : فبقي شيء غير القياس ؟ قال : لا ، قلت : فبحق ندعي القياس أكثر مما تدعونه ، وإنما يقاس على الأصول فيعرف القياس ، قال : ويريد بصاحبه مالك بن أنس .

              حدثنا محمد بن عبد الرحمن أخبرني أبو بكر بن آدم أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : سمعت الشافعي ، يقول : قال محمد بن الحسن : أقمت على مالك بن أنس ثلاث سنين وكسرا ، وكان يقول : إنه سمع منه لفظا أكثر من سبعمائة حديث ، قال : وكان إذا حدثهم عن مالك امتلأ منزله وكثر الناس حتى يضيق عليهم الموضع ، وإذا حدث عن غير مالك لم يجئه إلا اليسير ، فكان يقول : ما أعلم أحدا أسوأ ثناء من أصحابكم منكم ، إذا حدثتكم عن مالك ملأتم علي الموضع ، وإذا حدثتكم عن أصحابكم إنما تأتون متكارهين .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن جعفر ، ثنا عبد الرحمن بن داود ، قال : قرأت على أبي زكريا يحيى بن زكريا النيسابوري حدثني أبو سعيد الفريابي قال : سمعت محمد بن إدريس ، وراق الحميدي ، يقول : [ ص: 75 ] سمعت الحميدي ، يقول : سمعت الشافعي ، يقول : كنت أطلب الشعر وأنا صغير ، وأكتب ، فبينا أنا أمشي بمكة أو في ناحية من مكة إذ سمعت صائحا يقول : يا محمد بن إدريس ، عليك بطلب العلم ، قال : فالتفت فلم أر أحدا ، فرجعت ، فكنت أطلب العلم وأكتبه على الخرق ، وأطرحه في الزير حتى امتلأ ، وكنت يتيما ، ولم يكن لأمي شيء ، فولي عم لي ناحية اليمن على القضاء ، فخرجت معه ، فلما قدمت من اليمن ، أتيت مسلم بن خالد الزنجي فسلمت عليه ، فلم يرد علي السلام ، وقال أحدهم : يجيئنا حتى إذا ظننا أنه يصلح أفسد نفسه ، قال : فسرت إلى سفيان بن عيينة ، فسلمت عليه فرد علي السلام وقال : قد بلغني يا أبا عبد الله ما كنت فيه ، وما بلغني إلا خير فلا تعد ، قال : ثم خرجت إلى المدينة فقرأت الموطأ على مالك ، قال : ثم خرجت إلى العراق ، فصرت إلى محمد بن الحسن ، فكنت أناظر أصحابه قال : فشكوني إلى محمد بن الحسن فقالوا : إن هذا الحجازي يعيب علينا قولنا ، ويخطئنا ، فذكر محمد بن الحسن ذلك ، فقلت له : إنا كنا لا نعرف إلا التقليد ، فلما قدمنا عليكم سمعناكم تقولون : لا تقلدوا ، واطلبوا الحق والحجاج ، فقال لي : فناظرني ، فقلت : أناظر بعض أصحابك ، وأنت تسمع ، فقال : لا ، إلا أنا ، قال : فقلت : ذلك ، قال : فتسأل أو أسأل ؟ قلت : ما شئت ، قال : فما تقول في رجل غصب من رجل عمودا فبنى عليه قصرا فجاءه مستحق فاستحقه ؟ قلت : يخير بين العمود وبين قيمته ، فإن اختار العمود هدم القصر وأخرج العمود فرده على صاحبه ، قال : فما تقول في رجل غصب من رجل خشبة فبنى عليها سفينة ، ثم لجج بها في البحر ، ثم جاء صاحبها فاستحقها ؟ قلت : تقدم إلى أقرب المرسيين فيخير بين القيمة وبين الخشبة ، فإن أخذ قيمتها ، وإلا نقض السفينة ورد الخشبة إلى صاحبها ، قال : فماذا تقول في رجل غصب من رجل خيط إبريسم فخاط به جرحه ، ثم جاء صاحبه فاستحقه ؟ قلت : له قيمته ، فكبر وكبر أصحابه ، وقالوا : تركت قولك يا حجازي ، فقلت له : على رسلك ، أرأيت لو أن صاحب القصر أراد أن يهدم قصره ويرد العمود إلى صاحبه ولا يعطيه قيمته ، كان للسلطان أن يمنعه من ذلك ؟ فقال : لا ، فقلت : أرأيت إن [ ص: 76 ] صاحب السفينة لو أراد أن ينقض السفينة ويرد الخشبة إلى صاحبها ، أكان للسلطان أن يمنعه ؟ قال : لا ، قلت : أرأيت إن صاحب الجرح لو أراد أن ينقض جرحه ، ويخرج الخيط الذي خاط به الجرح ، ويرده على صاحبه ، أكان للسلطان أن يمنعه ؟ قال : نعم ، قلت : فكيف تقيس ما هو محظور بما هو ليس بممنوع .

              حدثنا أبو محمد بن حيان ، ثنا أبو بكر النسائي ، عن عبد الله بن سلم الإسفرايني ، قال : سمعت محمد بن إدريس - إملاء - قال : سمعت الحميدي ، يقول : قال الشافعي : كنت يتيما مع أمي ، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم ، فذكر نحوه ومناظرته مع محمد بن الحسن ، وزاد : فقلت له : يرحمك الله ، فتقيس على مباح بمحرم ؟ هذا حرام عليه ، وهذا مباح له ، قال : فكيف تصنع بالسفينة ؟ قلت : آمره أن يقرب إلى أقرب المراسي إليه مرسى لا يهلك فيه ولا أصحابه ، فأنزع اللوح ، وأدفعه إلى أصحابه ، وأقول له : أصلح سفينتك واذهب ، قال : أليس قال صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " فقلت : من ضاره ؟ هو ضار نفسه ، وقلت له : ما تقول في رجل غصب من رجل جارية فأولدها عشرة من الولد ، كلهم قد قرأ القرآن وخطب على المنابر وقضى بين المسلمين ، ثم أثبت صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذا غصبه هذه الجارية وأولدها هؤلاء الأولاد ، بم كنت تحكم ؟ قال : أحكم بأولاده أرقاء لصاحب الجارية وأرد الجارية عليه ، قال : فقلت : نشدتك الله أيهما أعظم ضررا ؟ إن رددت أولاده رقيقا ، أو إن قلعت الساجة ؟

              حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حمدان ، ثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، ثنا أبو بشر أحمد بن حماد الدولابي ، في طريق مصر ، ثنا أبو بكر بن إدريس وراق الحميدي ، قال : سمعت الحميدي ، يقول : قال الشافعي : وليت نجران وبها بنو الحارث ، وموالي ثقيف ، فجمعتهم فقلت : اختاروا سبعة نفر منكم فمن عدلوه كان عدلا ، ومن جرحوه كان مجروحا ، فجمعوا لي سبعة نفر منهم ، فجلست للحكم ، فقلت للخصوم : تقدموا ، فإذا شهد الشاهدان عندي التفت إلى السبعة فإن عدلوه كان عدلا ، وإن جرحوه قلت : زدني شهودا ، فلما أثبت [ ص: 77 ] على ذلك ، وجعلت أسجل وأحكم ، فنظروا إلى حكم جار فقالوا : إن هذه الضياع والأموال التي يحكم علينا فيها ليست لنا ، إنما هي للمنصور بن المهدي في أيدينا ، فقلت للكاتب : اكتب : وأقر فلان بن فلان أن الذي وقع عليه حكمي في هذا الكتاب ، أن هذه الضيعة أو المال الذي حكمت عليه فيه ليست له ، وإنما هي للمنصور بن المهدي في يده ، ومنصور بن المهدي على حجته شيء قائم ، فخرجوا إلى مكة فلم يزالوا يعملون في حتى دفعت إلى العراق ، فقيل لي : انزل الباب ، فنظرت فإذا لا بد لي من الاختلاف إلى بعض أولئك ، وكان محمد بن الحسن جيد المنزلة ، فكتبت كتبه ، وعرفت قولهم فكان إذا قام ناظرت أصحابه .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب ، ثنا أبو حاتم ، قال : سمعت عمرو بن سوادة ، يقول : قال الشافعي : أفلست من دهري ثلاث إفلاسات ، فكنت أبيع قليلي وكثيري ، وحلي ابنتي وزوجتي ، ولم أرهن قط ، قال : وكان أسخى الناس على الطعام والدينار والدرهم .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا عبد الرحمن بن داود ، ثنا إبراهيم بن فتحون ، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرني بعض أصحابنا أن الشافعي قال : لم يكن لي مال ، كنت أطلب العلم في الحداثة ، فكنت أذهب إلى الديوان أستوهب الظهور أكتب عليها .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب ، ثنا أبو حاتم ، قال : سمعت عمرو بن سوادة يقول قال الشافعي : كانت نهمتي في شيئين ، في الرمي وطلب العلم ، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من العشرة عشرة ، وسكت عن العلم ، فقلت : أنت والله في العلم أكثر منك في الرمي .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي ، ثنا ابن بنت الشافعي ، قال : سمعت أبي يقول : كان الشافعي وهو حدث ينظر في النجوم وما نظر في شيء إلا فاق فيه ، فجلس يوما وامرأة تطلق فحسب ، فقال : تلد جارية عوراء على فرجها خال أسود ، تموت إلى كذا وكذا ، فولدت وكان كما قال ، [ ص: 78 ] فجعل على نفسه أن لا ينظر فيه أبدا ، ودفن الكتب التي كانت عنده في النجوم .

              حدثنا عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن الجرجاني ، ثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، ثنا الربيع بن سليمان ح ، وحدثنا محمد بن عبد الرحمن بن مخلد ، ثنا محمد بن موسى بن النعمان ثنا الربيع بن سليمان ، قال : سمعت الشافعي يقول : حملت عن محمد بن الحسن حمل بختي ليس عليه إلا سماعي .

              حدثنا عبد الرحمن ، ثنا أبو محمد بن أبي حاتم ، ثنا أبي ، ثنا أحمد بن أبي سريج ، قال : سمعت الشافعي ، يقول : أنفقت على كتب محمد بن الحسن ستين دينارا ، ثم تدبرتها فوضعت إلى جنب كل مسألة حديثا - يعني ردا عليه - .

              حدثنا عبد الرحمن ، ثنا أبو محمد بن أبي حاتم ، ثنا أحمد بن سلمة بن عبد الله النيسابوري ، عن أبي بكر بن إدريس ، وراق الحميدي ، قال : سمعت الحميدي يقول : قال الشافعي : خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتها وجمعتها .

              حدثنا عبد الرحمن ، ثنا أبو محمد بن أبي حاتم ، ثنا أبي ، ثنا أحمد بن أبي سريج ، عن أحمد بن سنان الواسطي ، قال : كتب الشافعي حديث ابن عجلان عن علي بن يحيى بن خلاد ، عن أبيه ، عن عمه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في ناحية المسجد فقال : ارجع فصل ، فإنك لم تصل " فكتب الشافعي هذا الحديث عن حسين الألثغ ، عن يحيى بن سعيد القطان ، عن ابن عجلان ، قال أبو محمد بن أبي حاتم : لحرص الشافعي على طلب الصحيح من العلم كتب عن رجل ، عن يحيى بن سعيد القطان الحديث الذي احتاج إليه ، ولم يأنف بكتابته عمن هو في سنه وأصغر منه ، ولعل يحيى بن سعيد كان حيا في ذلك الوقت ، فلم يبال بذلك .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية