الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : ( الملك ) هو القدرة ، والمالك هو القادر ، فقوله : ( مالك الملك ) معناه القادر على القدرة ، والمعنى إن قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه ليست إلا بإقدار الله تعالى فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره ، ويملك كل مالك مملوكه ، قال صاحب " الكشاف " مالك الملك " أي يملك جنس الملك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون ، واعلم أنه تعالى لما بين كونه ( مالك الملك ) على الإطلاق ، فصل بعد ذلك وذكر أنواعا خمسة :

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الأول : قوله تعالى : ( تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ) وذكروا فيه وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد منه : ملك النبوة والرسالة ، كما قال تعالى : ( فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) [ النساء : 54 ] والنبوة أعظم مراتب الملك ؛ لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلق ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق ، والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر ، فأما على البواطن فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتهم ، وأن يعتقد أنه هو الحق ، وأما على الظواهر فلأنهم لو تمردوا واستكبروا لاستوجبوا القتل ، ومما يؤكد هذا التأويل أن بعضهم كان يستبعد أن يجعل الله تعالى بشرا رسولا فحكى الله عنهم قولهم : [ أبعث الله بشرا رسولا ) [ الإسراء : 94 ] وقال الله تعالى : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ] [ الأنعام : 9 ] وقوم آخرون جوزوا من الله تعالى أن يرسل رسولا من البشر ، إلا أنهم كانوا يقولون : إن محمدا فقير يتيم ، فكيف يليق به هذا المنصب العظيم على ما حكى الله عنهم أنهم قالوا : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) [ الزخرف : 31 ] وأما اليهود فكانوا يقولون النبوة كانت في آبائنا وأسلافنا ، وأما قريش فهم ما كانوا أهل النبوة والكتاب فكيف يليق النبوة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ وأما المنافقون فكانوا يحسدونه على النبوة ، على ما حكى الله ذلك عنهم في قوله : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) [ النساء : 54 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وأيضا فقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : ( قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ) [ آل عمران : 12] أن اليهود تكبروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثرة عددهم وسلاحهم وشدتهم ، ثم إنه تعالى رد على جميع هؤلاء الطوائف بأن بين أنه سبحانه هو مالك الملك فيؤتي ملكه من يشاء ، فقال : ( تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ) .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : فإذا حملتم قوله : ( تؤتي الملك من تشاء ) على إيتاء ملك النبوة ، وجب أن تحملوا قوله : ( وتنزع الملك ممن تشاء ) على أنه قد يعزل عن النبوة من جعله نبيا ، ومعلوم أن ذلك لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : الجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الله تعالى إذا جعل النبوة في نسل رجل ، فإذا أخرجها الله من نسله ، وشرف بها إنسانا آخر من غير ذلك النسل ، صح أن يقال إنه تعالى نزعها منهم ، واليهود كانوا معتقدين أن النبوة لا بد وأن تكون في بني إسرائيل ، فلما شرف الله تعالى محمدا - صلى الله عليه وسلم - بها ، صح أن يقال : إنه ينزع ملك النبوة من بني إسرائيل إلى العرب .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن يكون المراد من قوله : ( وتنزع الملك ممن تشاء ) أي تحرمهم ولا تعطيهم هذا [ ص: 6 ] الملك لا على معنى أنه يسلبه ذلك بعد أن أعطاه ، ونظيره قوله تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) [البقرة : 257] مع أن هذا الكلام يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط ، وقال الله تعالى مخبرا عن الكفار أنهم قالوا للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - : ( أو لتعودن في ملتنا ) [ الأعراف : 88 ] وأولئك الأنبياء قالوا : ( وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ) [ الأعراف : 89 ] مع أنهم ما كانوا فيها قط ، فهذا جملة الكلام في تقرير قول من فسر قوله تعالى : ( تؤتي الملك من تشاء ) بملك النبوة .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أن يكون المراد من الملك ، ما يسمى ملكا في العرف ، وهو عبارة عن مجموع أشياء :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : تكثير المال والجاه ، أما تكثير المال فيدخل فيه ملك الصامت والناطق والدور والضياع ، والحرث ، والنسل ، وأما تكثير الجاه فهو أن يكون مهيبا عن الناس ، مقبول القول ، مطاعا في الخلق .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يكون بحيث يجب على غيره أن يكون في طاعته ، وتحت أمره ونهيه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن يكون بحيث لو نازعه في ملكه أحد ، قدر على قهر ذلك المنازع ، وعلى غلبته ، ومعلوم أن كل ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى ، أما تكثير المال فقد نرى جمعا في غاية الكياسة لا يحصل لهم مع الكد الشديد ، والعناء العظيم قليل من المال ، ونرى الأبله الغافل قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميته ، وأما الجاه فالأمر أظهر ، فإنا رأينا كثيرا من الملوك بذلوا الأموال العظيمة لأجل الجاه ، وكانوا كل يوم أكثر حقارة ومهانة في أعين الرعية ، وقد يكون على العكس من ذلك وهو أن يكون الإنسان معظما في العقائد ، مهيبا في القلوب ، ينقاد له الصغير والكبير ، ويتواضع له القاصي والداني ،

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : وهو كونه واجب الطاعة ، فمعلوم أن هذا تشريف يشرف الله تعالى به بعض عباده .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو حصول النصرة والظفر معلوم أن ذلك مما لا يحصل إلا من الله تعالى ، فكم شاهدنا من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، وعند هذا يظهر بالبرهان العقلي صحة ما ذكره الله تعالى من قوله : ( تؤتي الملك من تشاء ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن للمعتزلة هاهنا بحثا قال الكعبي قوله : ( تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ) ليس على سبيل المختارية ، ولكن بالاستحقاق فيؤتيه من يقوم به ، ولا ينزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه ، ويدل عليه قوله : ( لا ينال عهدي الظالمين ) [ البقرة : 124 ] وقال في حق العبد الصالح : ( إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ) [البقرة : 247 ] فجعله سببا للملك ، وقال الجبائي : هذا الحكم مختص بملوك العدل ، فأما ملوك الظلم فلا يجوز أن يكون ملكهم بإيتاء الله ، وكيف يصح أن يكون ذلك بإيتاء الله ، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه ومنعهم من ذلك ، فصح بما ذكرنا أن الملوك العادلين هم المختصون بأن الله تعالى آتاهم ذلك الملك ، فأما الظالمون فلا ، قالوا : ونظير هذا ما قلناه في الرزق : أنه لا يدخل تحته الحرام الذي زجره الله عن الانتفاع به ، وأمره بأن يرده على مالكه فكذا هاهنا ، قالوا : وأما النزع فبخلاف ذلك لأنه كما ينزع الملك من الملوك العادلين لمصلحة تقتضي ذلك فقد ينزع الملك عن الملوك الظالمين ونزع الملك يكون بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            منها بالموت ، وإزالة العقل ، وإزالة القوى ، والقدرة والحواس ، ومنها بورود الهلاك والتلف عن الأموال ، ومنها أن يأمر الله تعالى المحق بأن يسلب الملك الذي في يد المتغلب المبطل ، ويؤتيه القوة والنصرة ، فإذا حاربه المحق وقهره وسلب ملكه جاز أن يضاف هذا السلب والنزع إليه تعالى ، لأنه وقع عن أمره ، وعلى هذا الوجه نزع الله تعالى ملك فارس على يد الرسول ، هذا جملة كلام المعتزلة في هذا الباب .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 7 ] واعلم أن هذا الموضع مقام بحث مهم وذلك لأن حصول الملك للظالم ، إما أن يقال : إنه وقع لا عن فاعل وإنما حصل بفعل ذلك المتغلب ، أو إنما حصل بالأسباب الربانية ، والأول : نفي للصانع ، والثاني : باطل لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه ، ولا يتيسر له البتة ، فلم يبق إلا أن يقال بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى ، وهذا الكلام ظاهر ، ومما يؤكد ذلك أن الرجل قد يكون بحيث تهابه النفوس ، وتميل إليه القلوب ، ويكون النصر قرينا له ، والظفر جليسا معه ، فأينما توجه حصل مقصوده ، وقد يكون على الضد من ذلك ، ومن تأمل في كيفية أحوال الملوك اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله تعالى ، ولذلك قال حكيم الشعراء :


                                                                                                                                                                                                                                            لو كان بالحيل الغنى لوجدتني بأجل أسباب السماء تعلقي

                                                                                                                                                                                                                                                لكن من رزق الحجا حرم الغنى
                                                                                                                                                                                                                                            ضدان مفترقان أي تفرق

                                                                                                                                                                                                                                                ومن الدليل على القضاء وكونه
                                                                                                                                                                                                                                            بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق



                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن قوله : ( تؤتي الملك من تشاء ) محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوة ، وملك العلم ، وملك العقل والصحة والأخلاق الحسنة ، وملك النفاذ والقدرة وملك المحبة ، وملك الأموال ، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية