الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما أمر بطاعة الرسول في قوله : ( وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ثم حكى أن بعضهم تحاكم إلى الطاغوت ولم يتحاكم إلى الرسول ، وبين قبح طريقه وفساد منهجه ، رغب في هذه الآية مرة أخرى في طاعة الرسول فقال : ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال الزجاج : كلمة " من " ههنا صلة زائدة ، والتقدير : وما أرسلنا رسولا ، ويمكن أن يكون التقدير : وما أرسلنا من هذا الجنس أحدا إلا كذا وكذا ، وعلى هذا التقدير تكون المبالغة أتم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال أبو علي الجبائي : معنى الآية : وما أرسلت من رسول إلا وأنا مريد أن يطاع ويصدق ولم أرسله ليعصى . قال : وهذا يدل على بطلان مذهب المجبرة لأنهم يقولون : إنه تعالى أرسل رسلا لتعصى ، والعاصي من المعلوم أنه يبقى على الكفر ، وقد نص الله على كذبهم في هذه الآية ، فلو لم يكن في القرآن ما يدل على بطلان قولهم إلا هذه الآية لكفى ، وكان يجب على قولهم أن يكون قد أرسل الرسل ليطاعوا وليعصوا جميعا ، فدل ذلك على أن معصيتهم للرسل غير مرادة لله ، وأنه تعالى ما أراد إلا أن يطاع .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا الاستدلال في غاية الضعف وبيانه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله : ( إلا ليطاع ) يكفي في تحقيق مفهومه أن يطيعه مطيع واحد في وقت واحد ، وليس من شرط تحقق مفهومه أن يطيعه جميع الناس في جميع الأوقات ، وعلى هذا التقدير فنحن نقول بموجبه : وهو أن كل من أرسله الله تعالى فقد أطاعه بعض الناس في بعض الأوقات ، اللهم إلا أن يقال : تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه ، إلا أن الجبائي لا يقول بذلك ، فسقط هذا الإشكال على جميع التقديرات .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : لم لا يجوز أن يكون المراد به أن كل كافر فإنه لا بد وأن يقر به عند موته ، كما قال تعالى : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) [ النساء : 159 ] أو يحمل ذلك على إيمان الكل به يوم القيامة ، ومن المعلوم أن الوصف في جانب الثبوت [ ص: 129 ] يكفي في حصول مسماه ثبوته في بعض الصور وفي بعض الأحوال .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن العلم بعدم الطاعة مع وجود الطاعة متضادان ، والضدان لا يجتمعان ، وذلك العلم ممتنع العدم ، فكانت الطاعة ممتنعة الوجود ، والله عالم بجميع المعلومات ، فكان عالما بكون الطاعة ممتنعة الوجود ، والعالم بكون الشيء ممتنع الوجود لا يكون مريدا له ، فثبت بهذا البرهان القاطع أن يستحيل أن يريد الله من الكافر كونه مطيعا ، فوجب تأويل هذه اللفظة وهو أن يكون المراد من الكلام ليس الإرادة بل الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                            والتقدير : وما أرسلنا من رسول إلا ليؤمر الناس بطاعته ، وعلى هذا التقدير سقط الإشكال .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية