الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وأما خروج المني فإنه يوجب الغسل على الرجل والمرأة في النوم واليقظة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " { الماء من الماء } " وروت أم سلمة رضي الله عنها قالت : " { جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ قال : نعم إذا رأت الماء } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي سعيد صحيح ، رواه مسلم من طريقين لفظه فيهما : ( { إنما الماء من الماء } ) ورواه البيهقي وغيره : ( { الماء من الماء } ) كما وقع في المهذب يجب الغسل بالماء من إنزال الماء الدافق وهو المني . أما حديث أم سلمة فرواه البخاري ومسلم بلفظه في المهذب ، ورواه مسلم [ ص: 157 ] أيضا والدارمي من رواية أنس ومن رواية عائشة . ويجمع بين الروايات بأن الجميع حضروا القصة فرووها . وأم سلمة هي أم المؤمنين واسمها هند بنت أبي أمية حذيفة المخزومية ، كانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة لأبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد ، وهاجر بها الهجرتين إلى الحبشة ، ثم توفي فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أربع ، وقيل : سنة ثلاث ، توفيت سنة تسع وخمسين ولها أربع وثمانون سنة ، ودفنت بالبقيع . وأما أم سليم فهي أم أنس بن مالك بلا خلاف بين العلماء ، وقول الصيدلاني وإمام الحرمين والغزالي والروياني : هي جدة أنس غلط بلا شك بإجماع أهل النقل من الطوائف ، قيل : اسمها سهلة ، وقيل : رميلة ، وقيل رميثة وقيل : أنيقة ، وقيل غير ذلك ، وهي من فاضلات الصحابيات ومشهوراتهن ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمها ويكرم أختها أم حرام بنت ملحان ويقيل عندهما وكانتا خالتيه ومحرمين له واسم أبي طلحة زوجها زيد بن سهل شهد العقبة وبدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من النقباء ليلة العقبة ، ومناقبه مشهورة ( 201 ) وقولها : " إن الله لا يستحي من الحق " روي يستحيي بياءين ، وروي يستحي بياء واحدة وكلاهما صحيح ، والأصل بياءين فحذفت إحداهما .

                                      قال الأخفش : أستحي بواحدة لغة تميم وأستحيي بياءين لغة أهل الحجاز ، وبها جاء القرآن والاحتلام افتعال من الحلم - بضم الحاء وإسكان اللام - وهو ما يراه النائم من المنامات ، يقال : حلم في منامه - بفتح الحاء واللام - واحتلم وحلمت كذا وحلمت بكذا ، هذا أصله ، ثم جعل اسما لما يراه النائم من الجماع فيحدث معه إنزال المني غالبا ، فغاب لفظ الاحتلام في هذا دون غيره من أنواع المنام ، لكثرة الاستعمال . [ ص: 158 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : " نعم إذا رأت الماء " بيان لحالة وجوب الغسل بالاحتلام ، وهي إذا كان معه إنزال المني ، والله أعلم . وقوله : واليقظة هي - بفتح القاف - وهي ضد النوم . أما أحكام الفصل ففيه مسائل ( إحداها ) أجمع العلماء على وجوب الغسل بخروج المني ، ولا فرق عندنا بين خروجه بجماع أو احتلام ، أو استمناء ، أو نظر ، أو بغير سبب ، سواء خرج بشهوة أو غيرها . وسواء تلذذ بخروجه أم لا ، وسواء خرج كثيرا أو يسيرا ولو بعض قطرة ، وسواء خرج في النوم أو اليقظة من الرجل والمرأة ، العاقل والمجنون ، فكل ذلك يوجب الغسل عندنا وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : لا يجب إلا إذا خرج بشهوة ودفق ، كما لا يجب بالمذي لعدم الدفق . دليلنا الأحاديث الصحيحة المطلقة ، كحديث : " { الماء من الماء } " وبالقياس على إيلاج الحشفة ، فإنه لا فرق فيه ، ولا يصح قياسهم على المذي ; لأنه في مقابلة النص ، ولأنه ليس كالمني وحكى صاحب البيان عن النخعي أنه قال : ( لا يجب على المرأة الغسل بخروج المني ) ولا أظن هذا يصح عنه ، فإن صح عنه فهو محجوج بحديث أم سلمة . وقد نقل أبو جعفر محمد بن جرير الطبري إجماع المسلمين على وجوب الغسل بإنزال المني من الرجل والمرأة ، والله أعلم .



                                      ( المسألة الثانية ) إذا أمنى واغتسل ثم خرج منه مني - على القرب - بعد غسله لزمه الغسل ثانيا ; سواء كان ذلك قبل أن يبول بعد المني أو بعد بوله ، هذا مذهبنا نص عليه الشافعي ، واتفق عليه الأصحاب ، وبه قال الليث وأحمد في رواية عنه . قال مالك وسفيان الثوري وأبو يوسف وإسحاق بن راهويه : لا غسل مطلقا ، وهي أشهر الروايات ، وحكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وابن عباس وعطاء والزهري وغيرهم رضي الله عنهم [ ص: 159 ] وقال أبو حنيفة : إن كان ما بال قبل الغسل ثم خرج المني فلا غسل عليه لأنه بقية المني الذي اغتسل عنه وإلا فيجب الغسل ثانيا ، وهو رواية ثالثة عن أحمد وأبي حنيفة عكس هذا ، إن كان بال لم يغتسل ; لأنه مني عن غير شهوة وإلا وجب الغسل لأنه عن شهوة . دليلنا على الجميع قوله صلى الله عليه وسلم : " { الماء من الماء } " ولم يفرق ، ولأنه نوع حدث فنقض مطلقا كالبول والجماع وسائر الأحداث



                                      ( الثالثة ) لو قبل امرأة فأحس بانتقال المني ونزول فأمسك ذكره فلم يخرج منه في الحال شيء ، ولا علم خروجه بعد ذلك ، فلا غسل عليه عندنا ، وبه قال العلماء كافة إلا أحمد ، فإنه قال - في أشهر الروايتين عنه - يجب الغسل ، قال : ولا يتصور رجوع المني . دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم : " { إنما الماء من الماء } " ولأن العلماء مجمعون على أن من أحس بالحدث كالقرقرة والريح ، ولم يخرج منه شيء لا وضوء عليه ، فكذا هنا ، قال صاحب الحاوي : ولو أنزلت المرأة المني إلى فرجها فإن كانت بكرا لم يلزمها الغسل حتى يخرج من فرجها ; لأن داخل فرجها في حكم الباطن ، ولهذا لا يلزمها تطهيره في الاستنجاء والغسل ، فأشبه إحليل الذكر ، وإن كانت ثيبا لزمها الغسل لأنه يلزمها تطهير داخل فرجها في الاستنجاء ، فأشبه العضو الظاهر .



                                      ( الرابعة ) لو انكسر صلبه فخرج منه المني ولم ينزل من الذكر ، ففي وجوب الغسل وجهان حكاهما الماوردي والروياني والشاشي وغيرهم قال الشاشي : أصحهما : لا يجب ، وبه قطع القاضي أبو الطيب في تعليقه ، ذكره في كتاب الحجر . قال الماوردي هما مأخوذان من القولين في انتقاض الوضوء بخارج من منفتح غير السبيلين وقال المتولي : إذا خرج المني من ثقب في الذكر غير الإحليل أو من ثقب في الأنثيين أو الصلب فحيث نقضنا الوضوء بالخارج منه أوجبنا الغسل وقطع البغوي بوجوب الغسل بخروجه من غير الذكر ، والصواب تفصيل المتولي . قال أصحابنا : وهذا الخلاف في المني المستحكم ، فإن لم يستحكم لم يجب الغسل بلا خلاف ولو خرج المني من قبلي الخنثى [ ص: 160 ] المشكل لزمه الغسل فإن خرج من أحدهما ففيه طريقان حكاهما صاحب البيان وغيره .

                                      ( أحدهما ) يجب ( والثاني ) على وجهين ، وسبق بيانه في باب ما ينقض الوضوء ولو خرج المني من دبر رجل أو امرأة ففي وجوب الغسل وجهان ، أشار إليهما القاضي أبو الفتوح بناء على الخروج من غير المخرج والله أعلم .



                                      ( فرع ) في لغات المني والودي والمذي ، وتحقيق صفاتها ، أما المني فمشدد ، ويسمى منيا لأنه يمنى أي يصب ، وسميت منيا لما يراق فيها من الدماء ويقال : أمنى ومنى بالتخفيف ومنى بالتشديد ثلاث لغات ، الأولى أفصح وبها جاء القرآن قال الله تعالى { أفرأيتم ما تمنون } وفي المذي ثلاث لغات المذي بإسكان الذال وتخفيف الياء ، والمذي بكسر الذال وتشديد الياء ، وهاتان مشهورتان . قال الأزهري وغيره : التخفيف أفصح وأكثر ، والثالثة المذي بكسر الذال وإسكان الياء ، حكاها أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن ابن الأعرابي ويقال : مذى بالتخفيف وأمذى ومذى بالتشديد ، والأولى أفصح والودي - بإسكان الدال المهملة وتخفيف الياء - ولا يجوز عند جمهور أهل اللغة غير هذا .

                                      وحكى الجوهري في الصحاح عن الأموي أنه قال بتشديد الياء وحكى صاحب مطالع الأنوار لغة أنه بالذال المعجمة وهذان شاذان ويقال ودى بتخفيف الدال وودى بالتشديد ، والأولى أفصح ، قال الأزهري : لم أسمع غيرها قال أبو عمر الزاهد : قال ابن الأعرابي : يقال مذى وأمذى ومذى بالتشديد وهو المذي مثال الرمي . والمذى مثال العمى وودى وأودى وودى . وأمنى ومنى ومنى قال : والأولى منها كلها أفصح وأما صفاتها فمما يتأكد الاعتناء به لكثرة الحاجة إليه ، فمني الرجل في حال صحته أبيض ثخين يتدفق في خروجه دفعة بعد دفعة ويخرج بشهوة ويتلذذ بخروجه ثم إذا خرج يعقبه فتور ورائحته كرائحة طلع النخل قريبة من رائحة العجين وإذا يبس كانت رائحته كرائحة البيض ، هذه صفاته ، وقد يفقد بعضها مع أنه مني موجب للغسل ، بأن يرق ويصفر لمرض أو يخرج بغير شهوة ، ولا لذة لاسترخاء وعائه ، أو يحمر لكثرة الجماع ويصير كماء اللحم ، وربما خرج دما عبيطا ، ويكون طاهرا موجبا للغسل .

                                      وفي تعليق [ ص: 161 ] أبي محمد الأصبهاني أنه في الشتاء أبيض ثخين وفي الصيف رقيق ، ثم إن من صفاته ما يشاركه فيها غيره . كالثخانة والبياض يشاركه فيه الودي ، ومنها ما لا يشاركه فيها غيره وهي خواصه التي عليها الاعتماد في معرفته ، وهي ثلاث ( إحداها ) الخروج بشهوة مع الفتور عقيبه ( والثانية ) الرائحة التي تشبه الطلع والعجين ، كما سبق ( والثالثة ) الخروج بتزريق ودفق في دفعات ، فكل واحدة من هذه الثلاثة كافية في كونه منيا ولا يشترط اجتماعها ، فإن لم يوجد منها شيء لم يحكم بكونه منيا . وأما مني المرأة فأصفر رقيق . قال المتولي : وقد يبيض لفضل قوتها ، قال إمام الحرمين والغزالي : ولا خاصية له إلا التلذذ وفتور شهوتها عقيب خروجه ولا يعرف إلا بذلك ، وقال الروياني : رائحته كرائحة مني الرجل ، فعلى هذا له خاصيتان يعرف بإحداهما ، وقال البغوي : خروج منيها بشهوة أو بغيرها يوجب الغسل كمني الرجل وذكر الرافعي أن الأكثرين قالوا تصريحا وتعريضا يطرد في منيها الخواص الثلاث ، وأنكر عليه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وقال : هذا الذي ادعاه ليس كما قاله ، والله أعلم .

                                      وأما المذي فهو ماء أبيض رقيق لزج يخرج عند شهوة ، لا بشهوة ، ولا دفق ولا يعقبه فتور وربما لا يحس بخروجه ، ويشترك الرجل والمرأة فيه ، قال إمام الحرمين : وإذا هاجت المرأة خرج منها المذي ، قال : وهو أغلب فيهن منه في الرجال وأما الودي فماء أبيض كدر ثخين ، يشبه المني في الثخانة ويخالفه في الكدورة ولا رائحة له ، ويخرج عقيب البول إذا كانت الطبيعة مستمسكة وعند حمل شيء ثقيل ويخرج قطرة أو قطرتين ونحوهما . وأجمع العلماء أنه لا يجب الغسل بخروج المذي والودي ، واتفق أصحابنا على وجوب الغسل بخروج المني على أي حال ، ولو كان دما عبيطا ويكون حينئذ طاهرا ، صرح به الشيخ أبو حامد والأصحاب وحكى الرافعي وجها شاذا أنه إذا كان كلون الدم لم يجب الغسل ، وليس بشيء والله أعلم




                                      الخدمات العلمية