الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 4323 ) فصل : القسم الرابع ، القرب التي يختص فاعلها بكونه من أهل القربة ، يعني أنه يشترط كونه مسلما ، كالإمامة ، والأذان ، والحج ، وتعليم القرآن

                                                                                                                                            نص عليه أحمد . وبه قال عطاء ، والضحاك بن قيس ، وأبو حنيفة ، والزهري . وكره الزهري ، وإسحاق تعليم القرآن بأجر . وقال عبد الله بن شقيق : هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت . وممن كره أجرة التعليم مع الشرط : الحسن ، وابن سيرين ، وطاوس ، والشعبي ، والنخعي

                                                                                                                                            وعن أحمد ، رواية أخرى ، يجوز ذلك . حكاها أبو الخطاب . ونقل أبو طالب ، عن أحمد ، أنه قال : التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين ، ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة ، ومن أن يستدين ويتجر ، لعله لا يقدر على الوفاء ، فيلقى الله تعالى بأمانات الناس ، التعليم أحب إلي . وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة ، لا للتحريم . وممن أجاز ذلك مالك ، والشافعي . ورخص في أجور المعلمين أبو قلابة وأبو ثور ، وابن المنذر ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج رجلا بما معه من القرآن متفق عليه .

                                                                                                                                            وإذا جاز تعليم القرآن عوضا في باب النكاح ، وقام مقام المهر ، جاز أخذ الأجرة عليه في الإجارة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله } . حديث صحيح . وثبت { أن أبا سعيد رقى رجلا بفاتحة الكتاب على جعل فبرأ ، وأخذ أصحابه الجعل ، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، وسألوه ، فقال : لعمري لمن أكل برقية باطل ، لقد أكلت برقية حق ، كلوا واضربوا لي معكم بسهم }

                                                                                                                                            ولذا جاز أخذ الأجر ; لأنه في معناه ، ولأنه يجوز أخذ الرزق عليه من بيت المال ، فجاز أخذ الأجر عليه ، كبناء المساجد والقناطر ، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك ، فإنه يحتاج إلى الاستنابة في الحج عمن وجب عليه الحج وعجز عن فعله ، ولا يكاد يوجد متبرع بذلك ، فيحتاج إلى بذل الأجر فيه . ووجه الرواية الأولى ، ما روى عثمان بن أبي العاص ، قال : { إن آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا } قال الترمذي : هذا حديث حسن

                                                                                                                                            . وروى عبادة بن الصامت ، قال : علمت [ ص: 324 ] ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة ، فأهدى إلي رجل منهم قوسا ، قال : قلت : قوس وليست بمال . قال : قلت أتقلدها في سبيل الله . فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم . وقص عليه القصة ، قال : { إن سرك أن يقلدك الله قوسا من نار ، فاقبلها } . وعن أبي بن كعب ، أنه { علم رجلا سورة من القرآن ، فأهدى إليه خميصة أو ثوبا ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو أنك لبستها ، أو أخذتها ، ألبسك الله مكانها ثوبا من نار }

                                                                                                                                            وعن أبي ، قال : { كنت أختلف إلى رجل مسن ، قد أصابته علة ، قد احتبس في بيته أقرئه القرآن ، فكان عند فراغه مما أقرئه يقول لجارية له : هلمي بطعام أخي . فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة ، فحاك في نفسي منه شيء ، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن كان ذلك الطعام طعامه وطعام أهله ، فكل منه ، وإن كان يتحفك به ، فلا تأكله } . وعن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { اقرءوا القرآن ، ولا تغلوا فيه ، ولا تجفوا عنه ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكثروا به }

                                                                                                                                            روى هذه الأحاديث كلها الأثرم ، في " سننه " . ولأن من شرط صحة هذه الأفعال ، كونها قربة إلى الله تعالى ، فلم يجز أخذ الأجر عليها ، كما لو استأجر قوما يصلون خلفه الجمعة أو التراويح . فأما الأخذ على الرقية ، فإن أحمد اختار جوازه ، وقال : لا بأس . وذكر حديث أبي سعيد . والفرق بينه وبين ما اختلف فيه ، أن الرقية نوع مداواة ، والمأخوذ عليها جعل ، والمداواة يباح أخذ الأجر عليها ، والجعالة أوسع من الإجارة ، ولهذا تجوز مع جهالة العمل والمدة

                                                                                                                                            وقوله عليه السلام : { أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله } . يعني به الجعل أيضا في الرقية ; لأنه ذكر ذلك في سياق خبر الرقية . وأما جعل التعليم صداقا فعنه فيه اختلاف ، وليس في الخبر تصريح بأن التعليم صداق ، إنما قال صلى الله عليه وسلم : { زوجتكها على ما معك من القرآن } . فيحتمل أنه زوجه إياها بغير صداق ، إكراما له ، كما زوج أبا طلحة أم سليم على إسلامه ، ونقل عنه جوازه

                                                                                                                                            والفرق بين المهر والأجر ، أن المهر ليس بعوض محض ، وإنما وجب نحلة ووصلة ، ولهذا جاز خلو العقد عن تسميته ، وصح مع فساده ، بخلاف الأجر في غيره ، فأما الرزق من بيت المال ، فيجوز على ما يتعدى نفعه من هذه الأمور ; لأن بيت المال لمصالح المسلمين ، فإذا كان بذله لمن يتعدى نفعه إلى المسلمين محتاجا إليه ، كان من المصالح ، وكان للآخذ له أخذه ; لأنه من أهله ، وجرى مجرى الوقف على من يقوم بهذه المصالح ، بخلاف الأجر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية