الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 5857 ) الفصل الثاني :

                                                                                                                                            أنه إذا أتى بالكناية في حال الغضب ، فذكر الخرقي في هذا الموضع أنه يقع الطلاق . وذكر القاضي وأبو بكر ، وأبو الخطاب في ذلك روايتين ; : إحداهما ، يقع الطلاق . قال في رواية الميموني : إذا قال لزوجته : أنت حرة لوجه الله . في الرضى ، لا في الغضب ، فأخشى أن يكون طلاقا . والرواية الأخرى ، ليس بطلاق . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، إلا أن أبا حنيفة يقول في : اعتدي ، واختاري ، وأمرك بيدك . كقولنا في الوقوع .

                                                                                                                                            واحتجا بأن هذا ليس بصريح في الطلاق ، ولم ينوه به ، فلم يقع به الطلاق ، كحال الرضى ، ولأن مقتضى اللفظ لا يتغير بالرضى والغضب . ويحتمل أن ما كان من الكنايات لا يستعمل في غير الفرقة إلا نادرا ، نحو قوله : أنت حرة لوجه الله . واعتدي . واستبرئي . وحبلك على غاربك . وأنت بائن . وأشباه ذلك ، أنه يقع في حال الغضب . وجواب سؤال الطلاق من غير نية ، وما كثر استعماله لغير ذلك ، نحو : اذهبي . واخرجي . وروحي . وتقنعي . لا يقع الطلاق به إلا بنية .

                                                                                                                                            ومذهب أبي حنيفة قريب من هذا . وكلام أحمد ، والخرقي في الوقوع ، إنما ورد في قوله : أنت حرة . وهو مما لا يستعمله الإنسان في حق زوجته غالبا إلا كناية عن الطلاق ، ولا يلزم من الاكتفاء بذلك بمجرد الغضب وقوع غيره من غير نية ; لأن ما كثر استعماله يوجد كثيرا غير مراد به الطلاق في حال الرضى ، فكذلك في حال الغضب ، إذ لا حجر عليه في استعماله ، والتكلم به ، بخلاف ما لم تجر العادة بذكره ، فإنه لما قل استعماله في غير الطلاق ، كان مجرد ذكره يظن منه إرادة الطلاق ، فإذا انضم إلى ذلك مجيئه عقيب سؤال الطلاق ، أو في حال الغضب ، قوي الظن ، فصار ظنا غالبا .

                                                                                                                                            ووجه الرواية الأخرى ، أن دلالة الحال تغير حكم الأقوال والأفعال ; فإن من قال لرجل : يا عفيف ابن العفيف . حال تعظيمه ، كان مدحا له ، وإن قاله في حال شتمه وتنقصه ، كان قذفا وذما . ولو قال : إنه لا يغدر بذمه ، ولا يظلم حبة خردل ، وما أحد أوفى ذمة منه . في حال المدح ، كان مدحا بليغا ، كما قال حسان :

                                                                                                                                            فما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوفى ذمة من محمد

                                                                                                                                            ولو قاله في حال الذم كان هجاء قبيحا ، كقول النجاشي :

                                                                                                                                            قبيلة لا يغدرون بذمة     ولا يظلمون الناس حبة خردل

                                                                                                                                            وقال آخر :

                                                                                                                                            كأن ربي لم يخلق لخشيته     سواهم من جميع الناس إنسانا

                                                                                                                                            [ ص: 298 ] وهذا في هذا الموضع هجاء قبيح وذم ، حتى حكي عن حسان أنه قال : ما أراه إلا قد سلح عليهم .

                                                                                                                                            ولولا القرينة ودلالة الحال ، كان من أحسن المدح وأبلغه . وفي الأفعال لو أن رجلا قصد رجلا بسيف ، والحال يدل على المزح واللعب ، لم يجز قتله ، ولو دلت الحال على الجد ، جاز دفعه بالقتل . والغضب هاهنا يدل على قصد الطلاق ، فيقوم مقامه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية