الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          135 - مسألة : وسؤر كل كافر أو كافرة وسؤر كل ما يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه من خنزير أو سبع أو حمار أهلي أو دجاج مخلى أو غير مخلى - إذا لم يظهر هنالك للعاب ما لا يؤكل لحمه أثر - فهو طاهر حلال ، حاشا ما ولغ فيه الكلب فقط ، ولا يجب غسل الإناء من شيء منه ، حاشا ما ولغ فيه الكلب والهر فقط . برهان ذلك : أن الله تعالى حكم بطهارة الطاهر وتنجس النجس وتحريم الحرام وتحليل الحلال ، وذم أن تتعدى حدوده ، فكل ما حكم الله تعالى أنه طاهر فهو طاهر ، [ ص: 139 ] ولا يجوز أن يتنجس بملاقاة النجس له ; لأن الله تعالى لم يوجب ذلك ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما حكم الله تعالى أنه نجس فإنه لا يطهر بملاقاة الطاهر له ; لأن الله تعالى لم يوجب ذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم . وكل ما أحله الله تعالى فإنه لا يحرم بملاقاة الحرام له ; لأن الله تعالى لم يوجب ذلك ، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم . وكل ما حرمه الله تعالى فإنه لا يحل بملاقاة الحلال له ; لأن الله تعالى لم يوجب ذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم . ولا فرق بين من ادعى أن الطاهر يتنجس بملاقاة النجس . وأن الحلال يحرم بملاقاة الحرام ، وبين من عكس الأمر فقال : بل النجس يطهر بملاقاة الطاهر ، والحرام يحل بملاقاة الحلال ، كلا القولين باطل ، بل كل ذلك باق على حكم الله عز وجل فيه ، إلا أن يأتي نص بخلاف هذا في شيء ما فيوقف عنده ولا يتعدى إلى غيره . فإذا شرب كل ما ذكرنا في إناء أو أكل أو أدخل فيه عضوا منه أو وقع فيه فسؤره حلال طاهر ولا يتنجس بشيء مما ماسه من الحرام أو النجس ، إلا أن يظهر بعض الحرام في ذلك الشيء ، وبعض الحرام حرام كما قدمنا . حاشا الكلب والهر ، فقد ذكرنا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة : إن شرب في الإناء شيء من الحيوان الذي يؤكل لحمه فهو طاهر ، والوضوء بذلك الماء جائز : الفرس والبقر والضأن وغير ذلك سواء ، وكذلك أسآر جميع الطير ، وما أكل لحمه وما لم يؤكل لحمه منها ، والدجاج المخلى وغيره ، فإن الوضوء بذلك الماء جائز وأكرهه ، وأكل أسآرها حلال ، قال فإن شرب في الإناء ما لا يؤكل لحمه من بغل أو حمار أو كلب أو هر أو سبع أو خنزير فهو نجس : ولا يجزئ الوضوء به ، ومن توضأ به أعاد أبدا . وكذلك إن وقع شيء من لعابها في ماء أو غيره ، قال : وهذا وما لا يؤكل لحمه من الطير سواء في القياس ، ولكني أدع القياس وأستحسن .

                                                                                                                                                                                          قال علي : هذا فرق فاسد . ولا نعلم أحدا قبله فرق هذا الفرق : ولئن كان القياس حقا فلقد أخطأ في تركه الحق ، وفي استحسان خلاف الحق ، ولئن كان القياس باطلا ، فلقد أخطأ في استعمال الباطل حيث استعمله ودان به . وقال بعض القائلين : حكم المائع حكم اللحم المماس له .

                                                                                                                                                                                          قال علي : هذه دعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل ، وأيضا فإن كان أراد أن [ ص: 140 ] الحكم لهما واحد في التحريم فقد كذب ، لأن لحم ابن آدم حرام ، وهم لا يحرمون ما شرب فيه أو أدخل فيه لسانه ، وإن كان أراد في النجاسة والطهارة ، فمن له بنجاسة الحيوان الذي لا يؤكل لحمه ما دام حيا ؟ ولا دليل له على ذلك ، ولا يكون نجسا إلا ما جاء النص بأنه نجس ، وإلا فلو كان كل حرام نجسا لكان ابن آدم نجسا . وقال مالك : سؤر الحمار والبغل وكل ما لا يؤكل لحمه طاهر كسؤر غيره ولا فرق . قال : وأما ما أكل الجيف - من الطير والسباع - فإن شرب من ماء لم يتوضأ به وكذلك الدجاج التي تأكل النتن ، فإن توضأ به لم يعد إلا في الوقت ، فإن شرب شيء من ذلك في لبن ، فإن تبين في منقاره قذر لم يؤكل ، وأما ما لم ير في منقاره فلا بأس قال ابن القاسم صاحبه : يتوضأ به إن لم يجد غيره ويتيمم ، إذا علم أنها تأكل النتن . وقال مالك : لا بأس بلعاب الكلب . قال علي : إيجابه الإعادة في الوقت خطأ على أصله ، لأنه لا يخلو من أن يكون أدى الطهارة والصلاة كما أمر ، أو لم يؤدهما كما أمر ، فإن كان أدى الصلاة والطهارة كما أمر فلا يحل له أن يصلي ظهرين ليوم واحد في وقت واحد ، وكذلك سائر الصلوات ، وإن كان لم يؤدهما كما أمر فالصلاة عليه أبدا ، وهي تؤدى عنده بعد الوقت . وقد قال بعض المتعصبين له - إذ سئل بهذا السؤال - فقال : صلى ولم يصل ، فلما أنكر عليه هذا ذكر قول الله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } قال أبو محمد علي : وهذا الاحتجاج بالآية في غير موضعها أقبح من القول المموه له بذلك ; لأن الله أخبر أن رسوله صلى الله عليه وسلم لم يرم إذ رمى ، ولكنه تعالى هو رماها . فهذا البائس الذي صلى ولم يصل ، من صلاها عنه ؟ فلا بد للصلاة - إن كانت موجودة منه - من أن يكون لها فاعل ، كما كان للرمية رام ، وهو الخلاق عز وجل إذ وجود فعل لا فاعل له محال وضلال ، وليس من أقوال أهل التوحيد ، وإن كانت الصلاة التي أمر بها غير موجودة منه فليصلها على أصلهم أبدا .

                                                                                                                                                                                          وأما قول ابن القاسم : إنه إن لم يجد غيره يتوضأ به ويتيمم إذا علم أنها تأكل النتن فمتناقض ، لأنه إما ماء وإما ليس ماء ، فإن كان ماء فإنه لئن كان يجزئ الوضوء به إذا لم يجد غيره ، فإنه يجزئ وإن وجد غيره ، لأنه ماء ، وإن كان لا يجزئ إذا [ ص: 141 ] وجد غيره ، فإنه لا يجزئ إذا لم يجد غيره إن كان ليس ماء ; لأنه لا يعوض من الماء إلا التراب ، وإدخال التيمم في ذلك خطأ ظاهر ; لأن التيمم لا يحل ما دام يوجد ماء يجزئ به الوضوء .

                                                                                                                                                                                          وقال الشافعي : سؤر كل شيء من الحيوان - الحلال أكله والحرام أكله - طاهر ، وكذلك لعابه حاشا الكلب والخنزير ، واحتج لقوله هذا بعض أحكامه بأنه قاس ذلك على أسآر بني آدم ولعابهم ، فإن لحومهم حرام ، ولعابهم وأسآرهم كل ذلك طاهر . قال علي : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ، لأن قياس سائر السباع على الكلب - الذي لم يحرم إلا أنه من جملتها ، وبعموم تحريم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لحم كل ذي ناب من السباع فقط ، فدخل الكلب في جملتها بهذا النص ، ولولاه لكان حلالا - أولى من قياسها على ابن آدم الذي لا علة تجمع بينه وبينها ; لأن بني آدم متعبدون ، والسباع وسائر الحيوان غير متعبدة ، وإناث بني آدم حلال لذكورهم بالتزويج المباح وبملك اليمين المبيح للوطء ، وليس كذلك إناث سائر الحيوان ، وألبان نساء بني آدم حلال ، وليس كذلك ألبان إناث السباع والأتن ، فظهر خطأ هذا القياس بيقين .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قسناها على الهر ، قيل لهم : وما الذي أوجب أن تقيسوها على الهر دون أن تقيسوها على الكلب ؟ لا سيما وقد قستم الخنزير على الكلب ولم تقيسوه على الهر ، كما قستم السباع على الهر ، هذا لو سلم لكم أمر الهر ، فكيف والنص الثابت - الذي هو أثبت من حديث حميدة عن كبشة - وقد ورد مبينا لوجوب غسل الإناء من ولوغ الهر ، فهذه مقاييس أصحاب القياس كما ترى . والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمه .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية