الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال : ) فإن تزوجها على دراهم أو شيء من العروض لا تبلغ قيمته عشرة دراهم فإنه يكمل لها عشرة دراهم عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى لها ما سمى ، والأصل عنده أن كل ما يصلح ثمنا في البيع يصلح صداقا في النكاح ، وعندنا أدنى المهر عشرة دراهم من الفضة أو مما تكون الفضة فيه غالبة على الغش ، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم { المهر جائز قليله وكثيره } ، وفي رواية { المهر ما تراضى عليه الأهلون } ، وفي رواية { من استحل بدرهم فقد استحل } ، وروي { أن امرأة [ ص: 81 ] عرضت نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير فيها رغبة فقال : مالي حاجة إلى النساء فقالت : زوجني ممن شئت فقام رجل فقال : زوجها مني فقال : ماذا تصدقها ؟ فقال : إزاري هذه فقال : إذا قعدت ، ولا إزار لك التمس ، ولو بفلس التمس ولو خاتما من حديد فقال : لا أجد فقال : هل تحسن شيئا من القرآن ؟ فقال : نعم سورة كذا فقال : زوجتكها بما عندك من القرآن } فهذه الآثار تدل على أن المهر لا يتقدر بشيء ، وكذلك في الكتاب الشرط هو المال المطلق قال الله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } فتقييد ذلك المال بالعشرة يكون زيادة على النص ، وحجتنا في ذلك حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ، ولا يزوجن إلا من الأكفاء ، ولا مهر أقل من عشرة دراهم } ، وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا قطع في أقل من عشرة دراهم ، ولا مهر أقل من عشرة دراهم } ، وفي الكتاب قال : بلغنا ذلك عن علي وابن عمر وعائشة وعامر وإبراهيم رضوان الله عليهم أجمعين .

والمعنى فيه : أنه بدل في عقد لم يجعل إيجاب أصله إلى المتعاقدين فيكون مقدرا شرعا كالدية ، وبيان ذلك أن النكاح لا ينعقد صحيحا إلا موجبا للعوض إما في الحال ، أو في الثاني على ما بينا ، وإنما كان اشتراط العوض فيه شرعا ; لإظهار خطر البضع ، ولا يحصل هذا المقصود بأصل المالية فاسم المال يتناول الخطير ، والحقير ، وإنما يحصل إظهار الخطر بمال مقدر وإليه أشار الله تعالى في قوله : { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } ، والبضع من وجه في حكم النفوس حتى لا يسقط حكم الفعل فيه بالبدل ; ولأن الوطء سبب ; لإعلاق النفس ، وإذا كان بغير ملك يضيع ; لانعدام من ينفق عليه فكان الخطر هنا في معنى الخطر في النفوس ، والمال الذي هو بدل عن النفوس مقدر شرعا ، وهو الدية ; وهذا لأن كل مال أوجبه الشرع تولى بيان مقداره كالزكاة وغيرها ، فكذا الصداق مما أوجبه الشرع ، فيكون مقدرا شرعا ، وإليه أشار الله تعالى في قوله : { قد علمنا ما فرضنا عليهم } الآية معناه ما قدرنا فإن الفرض عبارة عن التقدير ، وعلى هذا نصاب السرقة يدخله التقدير بالاتفاق ; لأنه يستباح به ما لا يستباح بالبدل فكذلك الصداق .

وتأويل الآثار المروية فيما يجعله لها باليد ، ألا ترى أنه أمر ذلك الرجل بالالتماس ، والصداق يمكن إثباته في الذمة فعرفنا أن المراد ما يجعله لها باليد ، وذلك غير مقدر شرعا عندنا ، وإذا ثبت هذا فنقول : إذا تزوجها على خمسة دراهم فلها عشرة دراهم استحسانا في قول علمائنا الثلاثة إن دخل بها أو مات [ ص: 82 ] عنها ، وإن طلقها قبل الدخول بها فلها خمسة ، وفي القياس لها مهر مثلها إن دخل بها ، والمتعة إن طلقها قبل الدخول بها ، وهو قول زفر رحمه الله تعالى .

وجه القياس أنه سمى ما لا يصلح أن يكون صداقا لها شرعا فيكون بمنزلة ما لو سمى لها خمرا أو خنزيرا وللاستحسان وجهان .

( أحدهما ) : أن العشرة في كونها صداقا لا تتجزأ وذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله كما لو تزوج نصفها صح النكاح في الكل جميعا .

( الثاني ) : أن الإمهار إلى تمام العشرة حق الشرع ، وما زاد على ذلك حقها فإذا رضيت بالخمسة فقد أسقطت ما هو حقها ، وبعض ما هو حق الشرع فيعمل إسقاطها فيما هو حقها ، وهو الزيادة على العشرة ، ولا يعمل في حق الشرع ، وعلى هذا لو تزوجها على ثوب يساوي خمسة فلها الثوب وخمسة دراهم ، وإن طلقها قبل أن يدخل بها فلها نصف الثوب ودرهمان ونصف ، وإنما تعتبر قيمة الثوب يوم تزوجها عليه ، وكذلك إن سمى لها مكيلا أو موزونا ; لأن تقدير المهر واعتباره عند العقد .

وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى في الثوب تعتبر قيمته يوم القبض ، وفي المكيل والموزون يوم العقد ; لأن المكيل والموزون يثبت في الذمة ثبوتا صحيحا بنفس العقد ، والثوب لا يثبت ثبوتا صحيحا بل يتردد بينه وبين القيمة فلهذا يعتبر قيمته وقت القبض .

التالي السابق


الخدمات العلمية