الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا خاف المضطر الموت من العطش ، فلا بأس بأن يشرب من الخمر ما يرد عطشه عندنا ، وقال الشافعي لا يحل شرب الخمر للعطش ; لأن الخمر لا ترد العطش بل تزيد في عطشه لما فيها من الحرارة ، ولكنا نقول : لا بأس بذلك لقوله تعالى { إلا ما اضطررتم إليه } الآية ، فإن كانت في الميتة ، ففيها بيان أن موضع الضرورة مستثنى من الحرمة الثابتة بالشرع وحرمة الخمر ثابتة بالشرع كحرمة الميتة ، ولحم الخنزير ، ولا بأس بالإصابة منها عند تحقق الضرورة بقدر ما يدفع الهلاك به عن نفسه ، وشرب الخمر يرد عطشه في الحال ; لأن في الخمر رطوبة ، وحرارة ، فالرطوبة التي فيها ترد عطشه في الحال ، ثم بالحرارة التي فيها يزداد العطش في الثاني ، وإلى أن يهيج ذلك به ربما يصل إلى الماء ، فعرفنا أنه يدفع الهلاك به عن نفسه ، ولا يحل له أن يشرب [ ص: 29 ] منها إلى السكر ; لأن الثابت للضرورة يتقدر بقدر الضرورة ، فإن سكر نظرنا ، فإن لم يزد على ما يسكن عطشه ، فلا حد عليه ; لأن شرب هذا المقدار حلال ، وهو وإن سكر من شرب الحلال لا يلزمه الحد كما لو سكر من اللبن ، أو البنج ، وإن استكثر منه بعد ما سكن عطشه حتى سكر ، فعليه الحد ; لأن بعد ما سكن عطشه ، وهو غير مضطر ، فالقليل ، والكثير منها سواء في حكمه ، فمقدار ما شرب بعد تسكين العطش حرام عليه ، وذلك يكفي في إيجاب الحد عليه .

وكذلك النبيذ إذا شرب منه ، فوق ما يجزئه حتى سكر لما بينا أن السكر من النبيذ موجب للحد كشرب الخمر ، ولا ضرورة له في شرب القدح المسكر ، فعليه الحد لذلك ، وإذا كان مع رقيق له ماء كثير ، فأبى أن يسقيه حل له أن يقاتله عليه بما دون السلاح ; لأن الماء محرز مملوك لصاحبه بمنزلة الطعام إلا أن الماء في الأصل كان مباحا مشتركا ، وذلك الأصل بقي معتبرا بعد الإحراز حتى لا يتعلق القطع بسرقته ، فلاعتبار إباحة الأصل قلنا يقاتله بما دون السلاح ، ولكونه مالا مملوكا له في الحال له أن يقاتله عليه بالسلاح لقوله عليه الصلاة والسلام { من قتل دون ماله ، فهو شهيد } ، فكيف يقاتل بالسلاح من إذا قتله كان شهيدا ، وفي الماء المباح إذا منعه منه قاتله بالسلاح ، وقد بينا ذلك في كتاب الشرب ، فأما في الطعام ، فلا يحل له أن يقاتله ، ولكنه يغصبه إياه إن استطاع ، فيأكله ، ثم يعطيه ثمنه بعد ذلك ; لأنه ما كان للمضطر حق في هذا الطعام قط ، ولكن الطعام ملك لصاحبه ، فهو يمنع الغير من ملكه ، وذلك مطلق له شرعا ، فلا يجوز لأحد أن يقاتله على ذلك ، ولكن المضطر يخاف الهلاك على نفسه ، وذلك مبيح له التناول من طعام الغير بشرط الضمان ، وهو إنما يتأتى بفعل مقصور على الطعام غير متعد إلى صاحبه ، والمقصور على الطعام الأخذ ، فأما القتال ، فيكون مع صاحب الطعام لا مع الطعام ، فلهذا لا يقاتله بالسلاح ، ولا بغيره ، فإن كان الرقيق الذي معه الماء يخاف على نفسه الموت إن لم يحرز ماءه ، فإنه يأخذ منه بعضه ، ويترك بعضه ; لأن الشرع ينظر للكل ، وإنما يحل للمضطر شرعا دفع الهلاك عن نفسه بطريق لا يكون فيه هلاك غيره ، وفي أخذ جميع الماء منه هلاك صاحب الماء لقلته بحيث لا يدفع الهلاك إلا عن أحدهما ، فليس له أن يأخذه من صاحب الماء ; لأن حقه في ملكه مقدم على حق غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية