الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم إنه تعالى بعد أن بين التوحيد وأخبر أنه المتفرد بالخلق والأمر أمر عباده أنه يدعوه مخلصين متذللين فقال عز من قائل : ادعوا ربكم الذي عرفتم شؤونه الجليلة والمراد من الدعاء كما قال غير واحد السؤال والطلب وهو مخ العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وأنه عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم الحاجة وهو قادر على إيصالها إليه ولا شك أن معرفة العبد نفسه بالعجز والنقص ومعرفته ربه بالقدرة والكمال من أعظم العبادات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المراد منه هنا العبادة لأنه عطف عليه ( ادعوه خوفا وطمعا ) والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه وفيه نظر أما أولا فلأن المغايرة تكفي باعتبار المتعلقات كما تقول ضربت زيدا وضربت عمرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما ثانيا فلأنها لا تستدعي حمل الدعاء هنا على العبادة بل حمله على ذلك إما هنا أو هنا وأما ثالثا فلأنه خلاف التفسير المأثور كما ستعلمه إن شاء الله تعالى تضرعا أي ذوي تضرع أو متضرعين فنصبه على الحال من الفاعل بتقدير أو تأويل وجوز نصبه على المصدرية وكذا الكلام فيما بعد وهو من الضراعة وهي الذل والاستكانة يقال ضرع فلان لفلان إذا ذل له واستكان وقال الزجاج التضرع التملق وهو قريب مما قالوا أي ادعوه تذللا وقيل : التضرع مقابل الخفية واختاره أبو مسلم أي ادعوه علانية وخفية أي سرا .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن المبارك وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن قال : لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول : ادعوا ربكم تضرعا وخفية وأنه سبحانه ذكر عبدا صالحا فرضي له فعله فقال تعالى : إذ نادى ربه نداء خفيا وفي رواية عنه أنه قال : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا وجاء من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال لقوم يجهرون : أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته والمعنى ارفقوا وأقصروا من الصياح في الدعاء .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هنا قال جمع بكراهة رفع الصوت به وفي الانتصاف حسبك في تعين الأسرار فيه اقترانه في الآية بالتضرع فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله تعالى وأن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا وقار يصحبه وترى كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد وتستك المسامع وتستد ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين رفع الصوت في الدعاء وكون ذلك في المسجد .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن جرير عن ابن جريج أن رفع الصوت بالدعاء من الاعتداء المشار إليه بقوله سبحانه : إنه لا يحب المعتدين (55) وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن زيد بن أسلم وذهب بعضهم إلى أنه مما لا بأس به ودعاء المعتدين الذي لا يحبه الله تعالى هو طلب ما لا يليق بالداعي كرتبة الأنبياء عليهم السلام والصعود إلى [ ص: 140 ] السماء وأن منه ما ذهب جمع إلى أنه كفر كطلب دخول إبليس وأبي جهل وأضرابهما الجنة وطلب نزول الوحي والتنبي ونحو ذلك من المستحيلات لما فيه من طلب إكذاب الله تعالى نفسه وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ ( إنه لا يحب المعتدين ) وفصل آخرون فقالوا : الإخفاء أفضل عند خوف الرياء والإظهار أفضل عند عدم خوفه وأولى منه القول بتقديم الإخفاء على الجهر فيما إذا خيف الرياء أو كان في الجهر تشويش على نحو مصل أو نائم أو قارئ أو مشتغل بعلم شرعي وبتقديم الجهر على الإخفاء فيما إذا خلا عن ذلك وكان فيه قصد تعليم جاهل أو نحو إزالة وحشة عن مستوحش أو طرد نحو نعاس أو كسل عن الداعي نفسه أو إدخال سرور على قلب مؤمن أو تنفير مبتدع عن بدعة أو نحو ذلك ومنه الجهر بالترضي عن الصحابة والدعاء أمام المسلمين في الخطبة وقد سن الشافعية الجهر بآمين بعد الفاتحة وهو دعاء ويجهر بها الإمام والمأموم عندهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وفرق بعضهم بين رفع الصوت جدا كما يفعله المؤذنون في الدعاء بالفرج على المآذن وبين رفعه بحيث يسمعه من عنده فقال : لا بأس في الثاني غالبا ولا كذلك الأول والظاهر أن المراد بالمعتدين المجاوزون ما أمروا به في كل شيء ويدخل فيهم المعتدون في الدعاء دخولا أوليا وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى في الآية ادعوا ربكم في كل حاجاتكم من أمر الدنيا والآخرة ولا تعتدوا فتدعوا على مؤمن ومؤمنة بشر كالخزي واللعن وقد اختلف العلماء في كفر من دعا على آخر بسلب الإيمان أو الموت كافرا وهو من أعظم أنواع الاعتداء والمفتى به عدم الكفر وذكروا للدعاء آدابا كثيرة منها الكون على طهارة واستقبال القبلة وتخلية القلب من الشواغل وافتتاحه واختتامه بالتصلية على النبي صلى الله عليه وسلم ورفع اليدين نحو السماء وإشراك المؤمنين فيه وتحري ساعات الإجابة ومنها يوم الجمعة عند كثير ساعة الخطبة ويدعو فيها بقلبه كما نص عليه أفضل متأخري مصره الفاضل الطحطاوي في حواشيه على الدر المختار فيما نقله عنه أفقه المعاصرين ابن عابدين الدمشقي ووقت نزول الغيث والإفطار وثلث الليل الأخير وبعد ختم القرآن وغير ذلك مما هو مبسوط في محله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية