الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم إنه سبحانه وتعالى عقب ذلك بما يحققه ويقرره من قصص الأمم الخالية والقرون الماضية وفي ذلك أيضا تسلية لرسوله عليه الصلاة والسلام فقال جل شأنه : لقد أرسلنا نوحا إلى قومه وهو جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا .. إلخ . واطرد استعمال هذه اللام مع قد في الماضي على ما قال الزمخشري وقل الاكتفاء بها وحدها نحو قوله .


                                                                                                                                                                                                                                      حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا فما أن من حديث ولا صالي



                                                                                                                                                                                                                                      والسر في ذلك أن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة لتوقع المخاطب حصول المقسم عليه لأن القسم دل على الاهتمام فناسب ذلك إدخال قد ونقل عن النحاة أنهم قالوا : إذا كان جواب القسم ماضيا مثبتا متصرفا فإما أن يكون قريبا من الحال فيؤتى بقد وإلا أثبت [ ص: 149 ] باللام وحدها فجوزوا الوجهين باعتبارين ولم يؤت هنا بعاطف وأتي به في هود والمؤمنين على ما قال الكرماني لتقدم ذكر نوح صريحا في هود وضمنا في المؤمنين حيث ذكر فيها قبل وعليها وعلى الفلك تحملون وهو عليه السلام أول من صنعها بخلاف ما هنا ونوح بن لمك بفتحتين وقيل : بفتح فسكون وقيل : ملكان بميم مفتوحة ولام ساكنة ونون آخره وقيل : لامك كهاجر بن متوشلخ بضم الميم وفتح التاء الفوقية والواو وسكون الشين المعجمة على وزن المفعول كما ضبطه غير واحد وقيل بفتح الميم وضم المثناة الفوقية المشددة وسكون الواو ولام مفتوحة وخاء معجمة ابن أخنوخ بهمزة مفتوحة أوله وخاء معجمة ساكنة ونون مضمومة وواو ساكنة وخاء أيضا ومعناه في تلك اللغة على ما قيل القراء وقيل : خنوخ بإسقاط الهمزة وهو إدريس عليه السلام أخرج ابن إسحاق وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : بعث نوح عليه السلام في الألف الثاني وإن آدم عليه السلام لم يمت حتى ولد له نوح في آخر الألف الأول وأخرجا عن مقاتل وجويبر أن آدم عليه السلام حين كبر ودق عظمه قال : يا رب إلى متى أكد وأسعى قال يا آدم حتى يولد لك ولد مختون فولد له نوح بعد عشرة أبطن وهو يومئذ ابن ألف سنة إلا ستين عاما وبعث على ما روي عن ابن عباس على رأس أربعمائة سنة وقال مقاتل : وهو ابن مائة سنة وقيل : وهو ابن خمسين سنة وقيل : وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وبعث كما روى ابن أبي حاتم وابن عساكر عن قتادة من الجزيرة وهو أول نبي عذب الله تعالى قومه وقد لقي منهم ما لم يلقه نبي من الأنبياء عليهم السلام .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في عموم بعثته عليه السلام ابتداء مع الاتفاق على عمومها انتهاء حيث لم يبق بعد الطوفان سوى من كان معه في السفينة ولا يقدح القول بالعموم في كون ذلك من خواص نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لأن ما هو من خواصه عليه الصلاة والسلام عموم البعثة لكافة الثقلين الجن والإنس وذلك مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة فيكفر منكره بل وكذا الملائكة كما رجحه جمع محققون كالسبكي ومن تبعه وردوا على من خالف ذلك وصريح آية ليكون للعالمين نذيرا إذ العالم ما سوى الله تعالى وخبر مسلم وأرسلت إلى الخلق كافة يؤيد ذلك بل قال البارزي : إنه صلى الله عليه وسلم أرسل حتى للجمادات بعد جعلها مدركة .

                                                                                                                                                                                                                                      وفائدة الإرسال للمعصوم وغير المكلف طلب إذعانهما لشرفه ودخولهما تحت دعوته واتباعه تشريفا على سائر المرسلين ولا كذلك بعثة نوح عليه السلام والفرق مثل الصبح ظاهر وهو كما قال القاموس اسم أعجمي صرف لخفته وجاء ابن عباس وعكرمة وجويبر ومقاتل أنه عليه السلام إنما سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه واختلف في سبب ذلك فقيل : هو دعوته على قومه بالهلاك وقيل مراجعته ربه في شأن ابنه كنعان وقيل : إنه مر بكلب مجذوم فقال له اخسأ يا قبيح فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب وقيل : هو إصرار قومه على الكفر فكان كلما دعاهم وأعرضوا بكى وناح عليهم قيل : وكان اسمه قبل السكن لسكون الناس إليه بعد آدم عليه السلام وقيل : عبد الجبار وأنا لا أعول على شيء من هذه الأخبار والمعول عليه عندي ما هو الظاهر من أنه اسم وضع له حين ولد وليس مشتقا من النياحة وأنه كما قال [ ص: 150 ] صاحب القاموس فقال يا قوم اعبدوا الله أي وحده وترك التقييد به للإيذان بأنها العبادة حقيقة وأما العبادة مع الإشراك فكلا عبادة ولدلالة قوله سبحانه وتعالى : ما لكم من إله أي مستحق للعبادة غيره عليه وهو استئناف مسوق لتعليل العبادة المذكورة أو الأمر بها و ( من ) صلة و ( غير ) بالرفع وهي قراءة الجمهور صفة ( إله ) أو بدل منه باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الكسائي بالجر باعتبار لفظه وقرئ شاذا بالنصب على الاستثناء وحكم غير كما في المفصل حكم الاسم الواقع بعد إلا وهو المشهور أي ما لكم إله إلا إياه كقولك : ما في الدار أحد إلا زيدا وغير زيد و ( إله ) إن جعل مبتدأ فلكم خبره أو خبره محذوف و ( لكم ) للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود أو في العالم إله غير الله تعالى إني أخاف عليكم إن لم تعبدوا حسبما أمرت به وتقدير إن لم تؤمنوا لما أن عبادته سبحانه وتعالى تستلزم الإيمان به وهو أهم أنواعها وإنما قال عليه السلام : ( أخاف ) ولم يقطع حنوا عليهم واستجلابا لهم بلطف .

                                                                                                                                                                                                                                      عذاب يوم عظيم (59) هو يوم القيامة أو يوم الطوفان لأنه أعلم بوقوعه إن لم يمتثلوا والجملة كما قال شيخ الإسلام تعليل للعبادة ببيان الصارف عن تركها إثر تعليلها ببيان الداعي إليها ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه وتكميل الإنذار.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية