الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم في موضع جر على أنه نعت (لأولي) ويجوز أن يكون في موضع رفع أو نصب على المدح ، وجعله مبتدأ والخبر محذوف تقديره يقولون ( ربنا آمنا ) بعيد لما فيه من تفكيك [ ص: 158 ] النظم ، ويزيده بعدا ما أخرجه الأصبهاني في الترغيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ينادي مناد يوم القيامة أين أولو الألباب ؟ قالوا : أي أولي الألباب تريد ؟ قال : الذين يذكرون الله قياما وقعودا إلخ . عقد لهم لواء فاتبع القوم لواءهم وقال لهم ادخلوها خالدين .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن المراد من الذكر الذكر باللسان لكن مع حضور القلب إذ لا تمدح بالذكر بدونه ، بل أجمعوا على أنه لا ثواب لذاكر غافل ، وإليه ذهب كثير ، وعد ابن جريج قراءة القرآن ذكرا فلا تكره للمضطجع القادر ، نعم نص بعض الشافعية على كراهتها له إذا غطى رأسه للنوم ، وقال بعض المحققين : المراد به ذكره تعالى مطلقا سواء كان ذلك من حيث الذات أو من حيث الصفات والأفعال ، وسواء قارنه ذكر اللسان أولا ، والمعنى عليه الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره واستغراق سرائرهم في مراقبته ، وعليه فيحمل ما حكي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وعروة بن الزبير وجماعة رضي الله تعالى عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضهم : أما قال الله تعالى : يذكرون الله قياما وقعودا فقاموا يذكرون الله تعالى على أقدامهم على أن مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها وليس مرادهم به تفسيرها وتحقيق مصداقها على التعيين وإلا لاضطجعوا وذكروا أيضا ليتم التفسير وتحقيق المصداق .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود في الآية أنه قال : إنما هذا في الصلاة إذا لم تستطع قائما فقاعدا ، وإن لم تستطع قاعدا فعلى جنب . وكذلك أمر صلى الله عليه وسلم عمران بن حصين وكانت به بواسير - كما أخرجه البخاري عنه - وبهذا الخبر احتج الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه على أن المريض يصلي مضطجعا على جنبه الأيمن مستقبلا بمقادم بدنه ، ولا يجوز له أن يستلقي على ظهره على ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وجعل الآية حجة على ذلك بناء على أنه لما حصر أمر الذاكر في الهيئات المذكورة دل على أن غيرها ليس من هيئته ، والصلاة مشتملة على الذكر فلا ينبغي أن تكون على غير هيئته محل تأمل ، وتخصيص ابن مسعود الذكر بالصلاة لا ينتهض حجة على أنه بعيد من سياق النظم الجليل وسباقه .

                                                                                                                                                                                                                                      والقيام والقعود جمع قائم وقاعد - كنيام ورقود جمع نائم وراقد - وانتصابهما على الحالية من ضمير الفاعل في ( يذكرون ) ويحتمل أن يكونا مصدرين مؤولين بقائمين وقاعدين لتتأتى الحالية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : وعلى جنوبهم متعلق بمحذوف معطوف على الحال أي وكائنين على جنوبهم أي مضطجعين ، وجوز أن يقدر المتعلق المعطوف خاصا أي ومضطجعين على جنوبهم ، والمراد من ذكر هذه الأحوال الإشارة إلى الدوام وانفهامه منها عرفا مما لا شبهة فيه وليس المراد الدوام الحقيقي لاستحالته ، بل في غالب أحوالهم ، وبعضهم يأخذ الدوام من المضارع الدال على الاستمرار وكيفما كان فالمراد يذكرون الله تعالى كثيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      ويتفكرون في خلق السماوات والأرض عطف على ( يذكرون ) وعطفه على الأحوال السابقة غير ظاهر ، وتقديم الذكر في تلك الحالات على التفكر لما أن فيهما الاعتراف بالعبودية ، والعبد مركب من النفس الباطنة والبدن الظاهر ، وفي الأول إشارة إلى عبودية الثاني ، وفي الثاني إشارة إلى عبودية الأول لأن التفكر إنما يكون بالقلب والروح ، وفي بيان العبودية بعد الفراغ من آيات الربوبية ما لا يخفى من اللطف ، وقيل : قدم الأول لأنه إشارة إلى النظر في الأنفس ، وأخر الثاني لأنه إشارة إلى النظر في الآفاق ولا شبهة في تقدم الأول على الثاني ، وصرح مولاناشيخ الإسلام بأن [ ص: 159 ] هذا بيان للتفكر في أفعاله تعالى ، وما تقدم بيان للتفكر في ذاته تعالى على الإطلاق ، والذي عليه أئمة التفسير أنه سبحانه إنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته جل شأنه وعز سلطانه ، وقد ورد هذا النهي في غير ما حديث ، فقد أخرج أبو الشيخ والأصبهاني عن عبد الله بن سلام قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه وهم يتفكرون فقال : لا تفكروا في الله تعالى ولكن تفكروا فيما خلق .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن عمرو بن مرة قال : مر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على قوم يتفكرون فقال : " تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق " . وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تفكروا في الله تعالى . وعن ابن عباس : تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله تعالى - إلى غير ذلك - ففي كون الأول بيانا للتفكر في ذاته سبحانه على الإطلاق نظر على أن بعض الفضلاء ذكر في تفسيره أن التفكر في الله سبحانه محال لما أنه يستدعي الإحاطة بمن هو بكل شيء محيط فتدبر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : قدم الذكر على الدوام على التفكر للتنبيه على أن العقل لا يفي بالهداية ما لم يتنور بنور ذكر الله تعالى وهدايته ، فلا بد للمتفكر من الرجوع إلى الله تعالى ورعاية ما شرع له ، وأن العقل المخالف للشرع لبس الضلال ولا نتيجة لفكره إلا الضلال ، و (الخلق) إما بمعنى المخلوق على أن الإضافة بمعنى في أي يتفكرون فيما خلق في السموات والأرض أعم من أن يكون بطريق الجزئية منهما أو بطريق الحلول فيهما ، أو على أنها بيانية أي في المخلوق الذي هو السموات والأرض ، وإما باق على مصدريته أي يتفكرون في إنشائهما وإبداعهما بما فيهما من عجائب المصنوعات ودقائق الأسرار ولطائف الحكم ، ويستدلون بذلك على الصانع ووحدته الذاتية وأنه الملك القاهر والعالم القادر والحكيم المتقن إلى غير ذلك من صفات الكمال ، ويجرهم ذلك إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية وتحقيق المعاد وثبوت الجزاء ، ولشرافة هذه الثمرة الحاصلة من التفكر مع كونه من الأعمال المخصوصة بالقلب البعيدة عن مظان الرياء كان من أفضل العبادات ، وقد أخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال : تفكر ساعة خير من قيام ليلة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن سعد عن أبي الدرداء مثله . وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وعنه أيضا مرفوعا : بينما رجل مستلق ينظر إلى النجوم وإلى السماء فقال : والله إني لأعلم أن لك ربا وخالقا ، اللهم اغفر لي ، فنظر الله تعالى له فغفر له .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن عون قال : سألت أم الدرداء ، ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء ؟ قالت : التفكر والاعتبار .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي الدنيا عن عامر بن قيس قال : سمعت غير واحد - لا اثنين ولا ثلاثة - من أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون : إن ضياء الإيمان - أو نور الإيمان - التفكر ، واقتصر سبحانه على ذكر التفكر في خلق السماوات والأرض ولم يتعرض جل شأنه لإدراج اختلاف الليل والنهار في ذلك السلك مع ذكره فيما سلف - وشرف التفكر فيه أيضا كما يقتضيه التعليل ، وظاهر ما أخرجه الديلمي عن أنس مرفوعا : تفكر ساعة في اختلاف الليل والنهار خير من عبادة ثمانين سنة - إما للإيذان بظهور اندراج ذلك فيما ذكر لما أن الاختلاف من الأحوال التابعة لأحوال السموات والأرض على ما أشير إليه ، وإما للإشعار بمسارعة المذكورين إلى الحكم بالنتيجة لمجرد تفكرهم في بعض الآيات من غير حاجة إلى بعض آخر منها في إثبات المطلوب .

                                                                                                                                                                                                                                      ربنا ما خلقت هذا باطلا الإشارة إلى السموات والأرض لما أنهما باعتبار تعلق الخلق بهما في معنى [ ص: 160 ] المخلوق ، أو إلى الخلق على تقدير كونه بمعنى المخلوق ، وقيل : إليهما باعتبار المتفكر فيه ، وعلى كل فأمر الإفراد والتذكير واضح والعدول عن الضمير إلى اسم الإشارة للإشارة إلى أنها مخلوقات عجيبة يجب أن يعتنى بكمال تمييزها استعظاما لها ، ونظير ذلك قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم والباطل العبث وهو ما لا فائدة فيه مطلقا أو ما لا فائدة فيه يعتد بها أو ما لا يقصد به فائدة ، وقيل : الذاهب الزائل الذي لا يكون له قوة وصلابة ، ولا يخفى أنه قول لا قوة له ولا صلابة ، وهو إما صفة لمصدر محذوف أي خلقا باطلا أو حال من المفعول .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى ربنا ما خلقت هذا المخلوق أو المتفكر فيه العظيم الشأن عاريا عن الحكمة خاليا عن المصلحة كما ينبئ عنه أوضاع الغافلين عن ذلك المعرضين عن التفكر فيه العادمين من جناح النظر قداماه وخوافيه ، بل خلقته مشتملا على حكم جليلة منتظما لمصالح عظيمة تقف الأفكار حسرى دون الإحاطة بها ، وتكل أقدام الأذهان دون الوقوف عليها بأسرها ، ومن جملتها أن يكون مدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد حسبما نطقت به كتبك وجاءت به رسلك .

                                                                                                                                                                                                                                      والجملة بتمامها في حيز النصب بقول مقدر أي يقولون ( ربنا ) إلخ ، وجملة القول حال من المستكن في ( يتفكرون ) أي يتفكرون في ذلك قائلين ربنا ما خلقت هذا باطلا وإلى هذا ذهب عامة المفسرين .

                                                                                                                                                                                                                                      واعترض بأن النظم الكريم لا يساعده لما أن (ما) في حيز الصلة وما هو قيد له حقه أن يكون من مبادئ الحكم الذي أجري على الموصول ودواعي ثبوته له كذكرهم لله تعالى في عامة أوقاتهم وتفكرهم في خلق السموات والأرض فإنهما مما يؤدي إلى اجتلاء تلك الآيات والاستدلال بها على المطلوب ، ولا ريب أن قولهم ذلك ليس من مبادئ الاستدلال المذكور بل من نتائجها المترتبة عليه ، فاعتباره قيدا لما في حيز الصلة مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل ، فاللائق أن تكون جملة القول استئنافا مبينا لنتيجة التفكر ، ومدلول الآيات ناشئا مما سبق ، فإن النفس عند سماع تخصيص الآيات المنصوبة في خلق العالم - بأولي الألباب - ثم وصفهم بذكر الله تعالى والتفكر في مجال تلك الآيات تبقى مترقبة لما يظهر منهم من آثارها وأحكامها كأنه قيل : فماذا يكون عند تفكرهم في ذلك وما يترتب عليه من النتيجة ؟ فقيل : يقولون كيت وكيت مما ينبئ عن وقوفهم على سر الخلق المؤدي إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية ، وهذا على تقدير كون الموصول موصولا نعتا (لأولي) ، وأما على تقدير كونه مفصولا منصوبا أو مرفوعا على المدح مثلا فتأتي الحالية من ذلك إذ لا اشتباه في أن قولهم هذا من مبادئ مدحهم ومحاسن مناقبهم ، ويكون في إبراز هذا القول في معرض الحال إشعار بمقارنته لتفكرهم من غير تردد وتلعثم في ذلك انتهى ، وهو كلام تلوح عليه أمارات التحقيق ومخايل التدقيق .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول بأن الحالية تجتمع مع كون القول المذكور من النتائج لا يخفى ما فيه ، ثم كون هذا القول من نتائج التفكر مما لا يكاد ينكره ذو فكر ، وتوضيح ذلك - على رأي - أن القوم لما تفكروا في مخلوقاته سبحانه ولا سيما السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم والأرض ، وما عليها من البحار والجبال والمعادن ، عرفوا أن لها ربا وصانعا فقالوا : ربنا ثم لما اعترفوا في أن في كل من ذلك حكما ومقاصد وفوائد لا تحيط بتفاصيلها الأفكار قالوا : ما خلقت هذا باطلا ثم لما تأملوا وقاسوا أحوال هذه المصنوعات إلى صانعها رأوا أنه لا بد وأن يكون الصانع منزها عن مشابهة شيء منها ، فإذن هو ليس بجسم ولا عرض ولا في حيز ولا بمفتقر (ولا ولا ...) فقالوا : سبحانك أي تنزيها لك مما لا يليق بك ، ثم لما استغرقوا في بحار العظمة والجلال وبلغوا هذا المبلغ الأعظم [ ص: 161 ] وتحققوا أن من قدر على ما ذكر من الإنشاء بلا مثال يحتذيه أو قانون ينتحيه واتصف بالقدرة الشاملة والحكمة الكاملة كان على إعادة من نطقت الكتب السماوية بإعادته أقدر ، وإن ذلك ليس إلا لحكمة باهرة هي جزاء المكلفين بحسب استحقاقهم المنوط بأعمالهم القلبية والقالبية طلبوا النجاة مما يحيق بالمقصرين ويليق بالمخلين فقالوا : فقنا عذاب النار (191) أي فوفقنا للعمل بما فهمنا من الدلالة ، ومن هنا قيل : إن الفاء لترتب الدعاء بالاستعاذة من النار على ما دل عليه ربنا ما خلقت هذا باطلا من وجوب الطاعة واجتناب المعصية كأنه قيل : فنحن نطيعك فقنا عذاب النار التي هي جزاء من عصاك و (سبحانك) مصدر منصوب بفعل محذوف ، والجملة معترضة لتقوية الكلام وتأكيده ، ولا ينافي ذلك كونها مؤكدة لنفي العبث عن خلقه .

                                                                                                                                                                                                                                      وبعضهم قال : بهذا التأكيد ولم يقل بالاعتراض وجعل ما بعد الفاء مترتبا على التنزيه المدلول عليه بسبحانك ، وادعى أنه الأظهر لاندراج تنزهه تعالى عن رد سؤال الخاضعين الملتجئين إليه فيه ، ولا يخفى تفرع المسألة على التنزيه عن خيبة رجاء الراجين وقيل : إنه جواب شرط مقدر ، وأن التقدير إذا نزهناك أو وحدناك فقنا عذاب النار الذي هو جزاء الذين لم ينزهوا أو لم يوحدوا ، واستدل الطبرسي بالآية على أن الكفر والضلال والقبائح ليست خلقا لله تعالى لأن هذه الأشياء كلها باطلة بالإجماع ، وقد نفى الله سبحانه ذلك حكاية عن أولي الألباب الذين رضي قولهم بأنه لا باطل فيما خلقه سبحانه ، فيجب بذلك القطع بأن القبائح كلها ليست مضافة إليه عز شأنه ، ومنفية عنه خلقا وإيجادا ، وفيه نظر ، لأن الأشياء كلها سواء من حيث أنها خلق الله تعالى ومشتملة على المصالح والحكم كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى : أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وتفاوتها إنما هو باعتبار نسبة بعضها إلى بعض وكون بعضها متعلق الأمر والبعض الآخر متعلق النهي مثلا لا باعتبار كون البعض مشتملا على الحكمة ، والبعض الآخر عاريا عنها ، فالقبائح من حيث إنها خلق الله تعالى ليست باطلة لأن الباطل كما علمت هو ما لا فائدة فيه مطلقا أو ما لا فائدة فيه يعتد بها أو ما لا يقصد به فائدة ، وهي ليست كذلك لاشتمالها في أنفسها على الحكم والفوائد الجمة التي لا يبعد قصد الله تعالى لها مع غناه الذاتي عنها ، ولا يشترط كون تلك الفوائد لمن صدرت على يده وإلا لزم خلو كثير من مخلوقاته تعالى عن الفوائد وتسميتها قبائح إنما هي باعتبار كونها متعلق النهي لحكمة أيضا ، وهو لا يستدعي كونها خالية عن الحكمة بل قصارى ذلك أنه يستلزم عدم رضاه سبحانه بها شرعا المستدعي ذلك للعقاب عليها بسبب أن إفاضتها كانت حسب الاستعداد الأزلي فدعوى أن هذه الأشياء كلها باطلة - باطلة كدعوى الإجماع على ذلك ، وكأن القائل لم يفهم معنى الباطل فقال ما قال ، واستدل بها بعضهم أيضا على أنأفعال الله تعالى معللة بالأغراض وهو مبني ظاهرا على أن الباطل العبث بالمعنى الثالث ، وقد علمت أن معنى العبث ليس محصورا فيه وبفرض الحصر لا بأس بهذا القول على ما ذهب كثير من المحققين ، لكن مع القول بالغنى الذاتي وعدم الاستكمال بالغير كما أشرنا إليه في البقرة ، واحتج حكماء الإسلام بها على أنه سبحانه وتعالى خلق الأفلاك والكواكب وأودع فيها قوى مخصوصة وجعلها بحيث يحصل من حركاتها ، واتصال بعضها ببعض مصالح في هذا العالم لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة ، ولا يمكن أن تقصر منافعها على الاستدلال بها على الصانع فقط لأن كل ذرة من ذرات الماء والهواء يشاركها في ذلك فلا تبقى لخصوصياتها فائدة وهو خلاف النص ، وناقشهم المتكلمون في ذلك بأنه يجوز أن تكون الفلكيات أسبابا عادية للأرضيات لا حقيقية ، وأن التأثير عندها لا بها ويكفي ذلك فائدة لخلقها. [ ص: 162 ] وأنت تعلم أن القول بإيداع القوى في الفلكيات بل وفي جميع الأسباب مع القول بأنها مؤثرة بإذن الله تعالى مما لا بأس به ، بل هو المذهب المنصور الذي درج عليه سلف الأمة وحققناه فيما قبل ، وهو لا ينافي استناد الكل إلى مسبب الأسباب ولا يزاحم جريان الأمور كلها بقضائه وقدره تعالى شأنه ، نعم القول بأن الفلكيات ونحوها مؤثرة بنفسها ولو لم يأذن الله تعالى ضلال واعتقاده كفر ، وعلى ذلك يخرج ما وقع في الخبر : من قال : أمطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله تعالى مؤمن بالكوكب ، ومن قال : أمطرنا بفضل الله تعالى فهو مؤمن بالله تعالى كافر بالكوكب . فليحفظ .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية