الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم

المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر الصديق ابن أبي قحافة رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة ، وذلك أنه كان ابن بنت خالته، وكان من المهاجرين البدريين المساكين، وهو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، بن عبد مناف ، وقيل: اسمه عوف ، ومسطح لقب، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لمسكنته، فلما وقع أمر الإفك وقال مسطح ما قال حلف أبو بكر رضي الله عنه ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح فاعتذر وقال: إنما كنت أغشى مجلس حسان فأسمع ولا أقول، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: لقد ضحكت وشاركت فيما قيل، ومر على يمينه فنزلت الآية.

وقال الضحاك وابن عباس رضي الله عنهما: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا: والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة ، فنزلت الآية في جميعهم. والأول أصح، غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة، بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع من هذه صفته غابر الدهر.

ورأى الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا وأبد ذلك أنها جرحة في شهادته، ذكره البلخي في المنتفى، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: أيكم المتألي على الله لا يفعل المعروف ؟

و "يأتل" معناه: يحلف، وزنها يفتعل، من الألية وهي اليمين. وقالت فرقة: معناه: يقصر، من قولك: ألوت في كذا إذا قصرت فيه، ومنه قوله تعالى: لا يألونكم [ ص: 363 ] خبالا ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : "ولا يتأل"، وهذا وزنه يتفعل من الألية بلا خلاف، وهي في المصحف "ياء تاء لام" فلذلك ساغ هذا الخلاف لأبي جعفر وزيد فروياه، وذكر الطبري أن خط المصحف مع قراءة الجمهور، فظاهر قوله إن ثم ألفا قبل التاء. و "الفضل والسعة" هنا: المال، وقوله تعالى: "ألا تحبون" الآية تمثيل وحجة، أي: كما تحبون غفران الله لكم عن ذنوبكم فكذلك أغفر لمن دونكم، وينظر إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم لا يرحم ، فروي أن أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية أنه قال: إني لأحب أن يغفر الله لي ، ورجع إلى مسطح النفقة والإحسان الذي كان يجري عليه، قالت عائشة رضي الله عنها: وكفر عن يمينه . وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه، وسفيان بن حسين : "ولتعفوا ولتصفحوا" بالتاء من فوق فيهما، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال بعض الناس: هذه أرجى آية في كتاب الله عز وجل من حيث لطف الله تعالى فيها بالقذفة العصاة بهذه اللفظة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وإنما تعطي الآية تفضلا من الله عز وجل في الدنيا، وإنما الرجاء في الآخرة، أما إن الرجاء في هذه الآية بقياس، أي إذا أمر أولي السعة بالعفو، فطرد هذا التفضل بسعة رحمته لا رب سواه، وإنما آيات الرجاء قوله تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ، وقوله تعالى: الله لطيف بعباده ، وسمعت أبي رحمه الله يقول: [ ص: 364 ] أرجى آية في كتاب الله تعالى عندي قوله: وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ، وقد قال الله تبارك وتعالى في آية أخرى: والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير فشرح الفضل الكبير في هذه الآية وبشر بها المؤمنين في تلك، وقال بعضهم، أرجى آية في كتاب الله تعالى قوله: ولسوف يعطيك ربك فترضى ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار.

التالي السابق


الخدمات العلمية