الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: ويسألونك عن المحيض الآية (222):

قد يكون اسما للحيض نفسه.

ويجوز أيضا أن يكون موضع الحيض كالمقيل والمبيت، وهو موضع القيلولة والبيتوتة .

ودل اللفظ على أن المراد بالمحيض ها هنا الحيض، لأن الجواب ورد [ ص: 135 ] بقوله: قل هو أذى وذلك صفة لنفس الحيض لا للموضع الذي فيه.

ويحتمل أن يقال: قوله: فاعتزلوا النساء في المحيض ، هو موضع الحيض، لأن الاعتزال في المحيض لا يتحقق له معنى إذا أراد به نفس الدم.

وقد كان اليهود يتجنبون مؤاكلة النساء ومشاربتهن ومجالستهن في الحيض، فنسخ الإسلام ذلك، فسأل المسلمون عن الوطء، وقالوا: ألا نطأهن يا رسول الله؟ يعني: أنه إذا لم نجتنب سائر الأعضاء منهن، فلا نجتنب موضع الحيض؟

فاستثنى الله تعالى موضع الحيض بقوله: قل هو أذى ، أي: موضع الأذى، وإلا فنفس الدم مجتنب ولا يقرب، وقد عرفوا نجاسته، فإن النجاسة مجتنبة، وذلك يقتضي كون التحريم مختصا بموضع الأذى، وهو الصحيح من مذهب الشافعي.

وعبر عن الموضع بالأذى، مع أن الأذى ليس عبارة عن نفس النجاسة، بل هو كناية عن العيافة في حق متوخي النظافة.

وأبو حنيفة يحرم ما تحت الإزار، ويحتج بأن قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض دال على حظر ما فوق الإزار وما تحته، غير أنه قام الدليل فيما فوق الإزار في الإباحة، وبقي ما دونه على حكم العموم. [ ص: 136 ] وهذا غير صحيح، فإنهم إنما سألوا بناء على ما علموا من استباحة مخالطتها في المأكل والمشرب والفراش، وإنما سألوا عن الوطء فقط، فلا يجوز أن تكون الآية دالة على الاعتزال المطلق، مع ما ذكرناه.

وإنما معنى الآية: قل هو أذى فاعتزلوا إتيان النساء في المحيض، أو وطء النساء في المحيض، فهو مضمر محذوف دل عليه ما بعده وهو قوله تعالى:

ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله .

فمد التحريم إلى غاية التحليل، فذكر بعد الغاية الإتيان، فدل أن المحرم قبله هو الإتيان فقط.

ويدل عليه حديث حماد بن سلمة عن ثابت بن أنس، أن اليهود كانوا يخرجون الحائض من البيت، ولا يؤاكلونها ولا يجامعونها في بيت، فسئل النبي عليه السلام عن ذلك، فأنزل الله تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى ، فقال صلى الله عليه وسلم: "جامعوهن في البيوت وافعلوا كل شيء إلا النكاح" ..

وروي عن عائشة أن النبي عليه السلام قال لها: "ناوليني الخمرة، فقالت: إني حائض، فقال: ليست حيضتك في يدك" ..

وذلك يدل على حل كل عضو ليس فيه حيض، فهذا يدل على معنى الآية.. [ ص: 137 ] قوله تعالى: ولا تقربوهن حتى يطهرن .

تنازع أهل العلم في معناه:

فقال قوم: هو انقطاع الدم، فيجوز وطؤها بعد انقطاع الدم، من غير فرق بين أقل الحيض وأكثره.

ومنهم من حرم قبل الغسل، من غير فرق بين أقل الحيض أو أكثره، وهو قول الشافعي.

وأبو حنيفة أباحه قبل الغسل، إذا انقطع الدم على الأكثر، وحرم إذا انقطع على ما دون الأكثر، مع وجوب الغسل عليها، مع الحكم بطهارتها.

أما من أتاح الوطء مطلقا، فإنه يتعلق بقوله تعالى: حتى يطهرن ، ومعلوم أنها طاهرة وإنما أراد به: حتى يطهرن من العارض وهو الحيض.

ويقال: طهرت من الحيض والنفاس "إذا زال الحيض والنفاس، ولذلك يقال زمان الطهر وزمان الحيض" ، وإنما هو زمان طهر المرأة وإن لم تغتسل للأكثر.

وإذا لم تكن حائضا فهي طاهرة، وليس بين كونها حائضا وطاهرة درجة ثالثة، فقد طهرت إذا.

فهذا قول ظاهر إلا أن قوله: فإذا تطهرن ، يخالف هذا المذهب ظاهره. [ ص: 138 ] وكذلك قراءة التثقيل في قوله: حتى يطهرن .

وفيه احتمال. وهو أن يكون معنى قوله: فإذا تطهرن ، أي إذا حل لهن التطهر بالماء والتيمم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا غابت الشمس أفطر الصائم" أي: حل له أن يفطر.

وقال: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل"، أي: حل له أن يحل.

ويقال للمطلقة إذا انقضت عدتها، إنها قد حلت للأزواج، ومعناه: أنه حل لها أن تتزوج.

وقال النبي عليه السلام لفاطمة بنت قيس: "إذا حللت فآذنيني"، وإذا احتمل ذلك، لم تزل الغاية عن حقيقتها بحظر الوطء بعدها فهذا أمر محتمل.

إلا أن الذي ينصر مذهب الشافعي يقول: إن الله تعالى قال:

قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن .

فيقتضي ذلك حتى يطهرن من الأذى وهو العيافة، وذلك لا يحصل بنفس انقطاع الدم قبل الاغتسال، ولذلك يسن لها أن تتبع بفرصة من مسك أثر الدم لإزالة بقية العيافة. [ ص: 139 ] فالذي يستحب هذا القدر، كيف يرى زوال الأذى بمجرد انقطاع الدم، ثم لما قال تعالى:

فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله قال:

إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وذلك يدل دلالة ظاهرة على تعلق قوله: فإذا تطهرن بقوله: ( يحب المتطهرين ) .

وإنما يحب الله تعالى المتطهرين باختيارهم لا غير، فليكن قوله: فإذا تطهرن محمولا على التطهر بالاختيار وهو فعل، ويكون قوله أخيرا، بيانا لما تقدم، وهذا على مذهب الشافعي، فأما أبو حنيفة، فإن بعض الأصوليين من أصحابه يقول:

إنا نعمل بالقراءتين، فنحمل القراءة المشددة في قوله: حتى يطهرن على انقطاع الدم على ما دون الأكثر، فإن عند ذلك لا يحل الوطء قبل الغسل، والقراءة المخففة في قوله: حتى يطهرن على انقطاع الدم على الأكثر.

وهذا قول بعيد، وأقل ما فيه إخراج قوله تعالى: فإذا تطهرن عن كونه حقيقة في الاغتسال، إذا حمل على انقطاع الدم على الأكثر، وحمله على حقيقته في الاغتسال، إذا كان انقطاع الدم على ما دون الأكثر، وذلك بعيد جدا.

ولأن الآية لو كانت متناولة للحالتين، كان تقدير الكلام: "حتى يغتسلن" في آية، "ولا يغتسلن" في آية أخرى، أو قراءة أخرى، ويكون ذكر المحيض متناولا لهما جميعا، ولا يكون فيه بيان المقصود، فيكون مجملا غير مفيد للبيان. [ ص: 140 ] ولأنه إذا كانت قراءة التشديد حقيقة في الاغتسال، وقد حملوها على انقطاع الدم فيما دون الأكثر، فيجب أن يتوقف الحل فيه على الاغتسال، وقد قالوا:

"إذا دخل وقت الصلاة وإن لم تغتسل حل للزوج وطؤها" .

فجعلوا وجوب الصلاة والصوم مجوزا للوطء، ولم يجعلوا وجوب الغسل مجوزا.

فإن حملوا قراءة التشديد على الغسل، لزمهم أن يوقفوا الحل على الغسل، فلا هم عملوا بقراءة التخفيف ولا بقراءة التشديد، وإن موهوا باعتذارات في وجوب الصلاة، فلا أثر لها في إخراج قراءة التشديد عن كونها حقيقة، ومقصودهم مراعاة القراءتين، في إلحاق إحداهما بالحقيقة والأخرى بالمجاز..

التالي السابق


الخدمات العلمية