الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 340 ] وقد تنازع العلماء في قول الصاحب نزلت هذه الآية في كذا هل يجري مجرى المسند كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند فالبخاري يدخله في المسند وغيره لا يدخله في المسند وأكثر المساند على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره ; بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند .

                وإذا عرف هذا فقول أحدهم نزلت في كذا لا ينافي قول الآخر نزلت في كذا إذا كان اللفظ يتناولهما كما ذكرناه في التفسير بالمثال وإذا ذكر أحدهم لها سببا نزلت لأجله وذكر الآخر سببا ; فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب أو تكون نزلت مرتين مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب .

                وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير : تارة لتنوع الأسماء والصفات وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه كالتمثيلات هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف .

                ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملا للأمرين ; إما لكونه مشتركا في اللفظ كلفظ ( قسورة الذي يراد به الرامي ويراد به الأسد .

                ولفظ ( عسعس الذي يراد به إقبال الليل وإدباره [ ص: 341 ] وإما لكونه متواطئا في الأصل لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين كالضمائر في قوله : { ثم دنا فتدلى } { فكان قاب قوسين أو أدنى } وكلفظ : { والفجر } { وليال عشر } { والشفع والوتر } وما أشبه ذلك .

                فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف وقد لا يجوز ذلك فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه إذ قد جوز ذلك أكثر الفقهاء : المالكية والشافعية والحنبلية وكثير من أهل الكلام وإما لكون اللفظ متواطئا فيكون عاما إذا لم يكن لتخصيصه موجب فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني .

                ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة فإن الترادف في اللغة قليل وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم وقل أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه ; بل يكون فيه تقريب لمعناه وهذا من أسباب إعجاز القرآن فإذا قال القائل : { يوم تمور السماء مورا } إن المور هو الحركة كان تقريبا إذ المور حركة خفيفة سريعة .

                [ ص: 342 ] وكذلك إذا قال : " الوحي " الإعلام أو قيل { أوحينا إليك } أنزلنا إليك أو قيل : { وقضينا إلى بني إسرائيل } أي أعلمنا وأمثال ذلك فهذا كله تقريب لا تحقيق فإن الوحي هو إعلام سريع خفي والقضاء إليهم أخص من الإعلام فإن فيه إنزالا إليهم وإيحاء إليهم .

                والعرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض كما يقولون في قوله : { لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه } أي مع نعاجه و { من أنصاري إلى الله } أي مع الله ونحو ذلك والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين فسؤال النعجة يتضمن جمعها وضمها إلى نعاجه وكذلك قوله : { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك } ضمن معنى يزيغونك ويصدونك وكذلك قوله : { ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا } ضمن معنى نجيناه وخلصناه وكذلك قوله : { يشرب بها عباد الله } ضمن يروى بها ونظائره كثيرة .

                ومن قال " لا ريب لا شك " فهذا تقريب وإلا فالريب فيه اضطراب وحركة كما قال : { دع ما يريبك إلى ما لا يريبك } وفي الحديث أنه { مر بظبي حاقف فقال : لا يريبه أحد } فكما أن اليقين ضمن السكون والطمأنينة فالريب ضده ضمن الاضطراب والحركة . ولفظ " الشك " وإن قيل : إنه يستلزم هذا المعنى ; لكن لفظه لا يدل عليه .

                [ ص: 343 ] وكذلك إذا قيل : ذلك الكتاب هذا القرآن فهذا تقريب ; لأن المشار إليه وإن كان واحدا فالإشارة بجهة الحضور غير الإشارة بجهة البعد والغيبة ولفظ " الكتاب " يتضمن من كونه مكتوبا مضموما ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونه مقروءا مظهرا باديا فهذه الفروق موجودة في القرآن فإذا قال أحدهم : ( أن تبسل أي تحبس وقال الآخر : ترتهن ونحو ذلك لم يكن من اختلاف التضاد وإن كان المحبوس قد يكون مرتهنا وقد لا يكون إذ هذا تقريب للمعنى كما تقدم وجمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جدا ; فإن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين ومع هذا فلا بد من اختلاف محقق بينهم كما يوجد مثل ذلك في الأحكام .

                ونحن نعلم أن عامة ما يضطر إليه عموم الناس من الاختلاف معلوم بل متواتر عند العامة أو الخاصة كما في عدد الصلوات ومقادير ركوعها ومواقيتها وفرائض الزكاة ونصبها وتعيين شهر رمضان والطواف والوقوف ورمي الجمار والمواقيت وغير ذلك .

                ثم اختلاف الصحابة في الجد والإخوة وفي المشركة ونحو ذلك لا يوجب ريبا في جمهور مسائل الفرائض بل ما يحتاج إليه عامة الناس هو عمود النسب من الآباء والأبناء والكلالة ; من الإخوة والأخوات ومن نسائهم كالأزواج فإن الله أنزل في الفرائض ثلاث آيات مفصلة [ ص: 344 ] ذكر في الأولى الأصول والفروع وذكر في الثانية الحاشية التي ترث بالفرض كالزوجين وولد الأم وفي الثالثة الحاشية الوارثة بالتعصيب وهم الإخوة لأبوين أو لأب واجتماع الجد والإخوة نادر ; ولهذا لم يقع في الإسلام إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل أو لذهول عنه وقد يكون لعدم سماعه وقد يكون للغلط في فهم النص وقد يكون لاعتقاد معارض راجح فالمقصود هنا التعريف بجمل الأمر دون تفاصيله .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية