الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                واختلفوا في الأجسام هل هي متماثلة أم لا ؟ على قولين مشهورين . وإذا عرف ذلك فمن قال : إنه جسم وأراد أنه مركب من الأجزاء فهذا قوله باطل وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات فقد علم بالشرع والعقل أن الله ليس كمثله شيء في شيء من صفاته فمن أثبت لله مثلا في شيء من صفاته فهو مبطل ومن قال إنه جسم بهذا المعنى فهو مبطل ومن قال إنه ليس بجسم بمعنى أنه لا يرى في الآخرة ولا يتكلم بالقرآن وغيره من الكلام ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء ولا عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه ولا يصعد إليه الكلم الطيب ولا تعرج الملائكة والروح إليه فهذا قوله باطل . وكذلك كل من نفى ما أثبته الله ورسوله وقال إن هذا تجسيم فنفيه باطل وتسمية ذلك تجسيما تلبيس منه فإنه إن أراد أن هذا في اللغة يسمى جسما فقد أبطل وإن أراد أن هذا يقتضي أن يكون جسما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة أو أن هذا يقتضي أن يكون جسما والأجسام متماثلة قيل له أكثر العقلاء يخالفونك في تماثل الأجسام المخلوقة وفي أنها مركبة فلا يقولون : إن الهواء مثل الماء [ ص: 318 ] ولا أبدان الحيوان مثل الحديد والجبال فكيف يوافقونك على أن الرب تعالى يكون مماثلا لخلقه إذا أثبتوا له ما أثبت له الكتاب والسنة والله تعالى قد نفى المماثلات في بعض المخلوقات وكلاهما جسم كقوله : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } مع أن كلاهما بشر . فكيف يجوز أن يقال : إذا كان لرب السموات علم وقدرة أنه يكون مماثلا لخلقه والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .

                ونكتة الأمر أن الجسم في اعتقاد هذا النافي يستلزم مماثلة سائر الأجسام ويستلزم أن يكون مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة وأكثر العقلاء يخالفونه في هذا التلازم وهذا التلازم منتف باتفاق الفريقين وهو المطلوب . فإذا اتفقوا على انتفاء النقص المنفي عن الله شرعا وعقلا بقي بحثهم في الجسم الاصطلاحي هل هو مستلزم لهذا المحذور ؟ وهو بحث عقلي كبحث الناس في الأعراض هل تبقى أو لا تبقى ؟ وهذا البحث العقلي لم يرتبط به دين المسلمين بل لم ينطق كتاب ولا سنة ولا أثر من السلف بلفظ الجسم في حق الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا فليس لأحد أن يبتدع اسما مجملا يحتمل معاني مختلفة لم ينطق به الشرع ويعلق به دين المسلمين ولو كان قد نطق باللغة العربية فكيف إذا [ ص: 319 ] أحدث للفظ معنى آخر والمعنى الذي يقصده إذا كان حقا عبر عنه بالعبارة التي لا لبس فيها فإذا كان معتقده أن الأجسام متماثلة وأن الله ليس كمثله شيء وهو سبحانه لا سمي له ولا كفو له ولا ند له فهذه عبارات القرآن تؤدي هذا المعنى بلا تلبيس ولا نزاع وإن كان معتقده أن الأجسام غير متماثلة وأن كل ما يرى وتقوم به الصفات فهو جسم فإن عليه أن يثبت ما أثبته الله ورسوله من علمه وقدرته وسائر صفاته . كقوله : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } وقوله : { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } وقوله عليه السلام في حديث الاستخارة : " { اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك } " وقوله في الحديث الآخر : " { اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق } " ويقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { إنكم ترون ربكم يوم القيامة عيانا كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته } " فشبه الرؤية بالرؤية وإن لم يكن المرئي كالمرئي . فهذه عبارات الكتاب والسنة عن هذا المعنى الصحيح بلا تلبيس ولا نزاع بين أهل السنة المتبعين للكتاب والسنة وأقوال الصحابة ثم بعد هذا من كان قد تبين له معنى من جهة العقل أنه لازم للحق لم يدفعه عن عقله فلازم الحق حق لكن ذلك المعنى لا بد أن يدل [ ص: 320 ] الشرع عليه فيبينه بالألفاظ الشرعية وإن قدر أن الشرع لم يدل عليه لم يكن مما يجب على الناس اعتقاده وحينئذ فليس لأحد أن يدعو الناس إليه وإن قدر أنه في نفسه حق .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية