الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل وبهذا يتبين بعض هذه الاستعاذة والتي قبلها كما جاءت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يستعذ المستعيذون بمثلهما فإن الوسواس أصل كل كفر وفسوق وعصيان فهو أصل الشر كله فمتى وقي الإنسان شره وقى عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال فإن جميع هذه إنما تحصل بطريق الوسواس ووقي عذاب الله في الدنيا والآخرة فإنه إنما يعذب على الذنوب وأصلها من الوسواس ثم إن دخل في الآية وسواس غيره بحيث يكون قوله { من شر الوسواس } استعاذة من الوسواس الذي يعرض له والذي يعرض للناس بسببه فقد وقى ظلمهم وإن كان [ ص: 519 ] إنما يريد وسواسه فهم إنما يسلطون عليه بذنوبه وهي من وسواسه قال تعالى : { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } وقال : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } وقال : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } . والوسواس من جنس الحديث والكلام ; ولهذا قال المفسرون في قوله { ما توسوس به نفسه } قالوا : ما تحدث به نفسه وقد قال صلى الله عليه وسلم { إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به } .

                وهو نوعان : خبر وإنشاء . فالخبر : إما عن ماض وإما عن مستقبل . فالماضي يذكره به والمستقبل يحدثه بأن يفعل هو أمورا أو أن أمورا ستكون بقدر الله أو فعل غيره فهذه الأماني والمواعيد الكاذبة والإنشاء أمر ونهي وإباحة . والشيطان تارة يحدث وسواس الشر وتارة ينسى الخير وكان ذلك بما يشغله به من حديث النفس . قال تعالى في النسيان : [ ص: 520 ] { وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } وقال فتى موسى : { فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان } وقال تعالى : { فأنساه الشيطان ذكر ربه } . وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضي التأذين أقبل فإذا ثوب بالصلاة أدبر فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه فيقول : اذكر كذا اذكر كذا لما لم يذكر حتى يظل الرجل لم يدر كم صلى } فالشيطان ذكره بأمور ماضية حدث بها نفسه مما كانت في نفسه من أفعاله ومن غير أفعاله فبتلك الأمور نسي المصلي كم صلى ولم يدر كم صلى فإن النسيان أزال ما في النفس من الذكر وشغلها بأمر آخر حتى نسي الأول . وأما إخباره بما يكون في المستقبل من المواعيد والأماني فكقوله : { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } وفي هذه الآية أمره ووعده وقال تعالى : { ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا } { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } { أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا } وقال تعالى : { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم } ففي هذه أيضا أمره ووعده . وقال موسى لما قتل القبطي : { هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين } .

                وقد قال غير واحد من الصحابة : كأبي بكر وابن مسعود فيما يقولونه باجتهادهم : إن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان . فجعلوا ما يلقى في النفس من الاعتقادات التي ليست مطابقة من الشيطان وإن لم يكن صاحبها آثما لأنه استفرغ وسعه كما لا يأثم بالوسواس الذي يكون في الصلاة من الشيطان ولا بما يحدث به نفسه وقد قال المؤمنون : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقد قال الله : قد فعلت . والنسيان للحق من الشيطان والخطأ من الشيطان . قال تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } وقد قال صلى الله عليه وسلم { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها } ولما نام هو وأصحابه عن الصلاة في غزوة خيبر قال : لأصحابه : { ارتحلوا فإن هذا مكان حضرنا فيه شيطان } وقال : { إن الشيطان أتى بلالا فجعل يهدئه كما يهدئ الصبي حتى نام } [ ص: 522 ] وكان النبي صلى الله عليه وسلم وكل بلالا أن يوقظهم عند الفجر والنوم الذي يشغل عما أمر به والنعاس من الشيطان وإن كان معفوا عنه ; ولهذا قيل : النعاس في مجلس الذكر من الشيطان وكذلك الاحتلام في المنام من الشيطان والنائم لا قلم عليه .

                وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الرؤيا ثلاثة : رؤيا من الله ورؤيا من الشيطان ورؤيا ما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في النوم } وقد قيل : إن هذا من كلام ابن سيرين لكن تقسيم الرؤيا إلى نوعين : نوع من الله ونوع من الشيطان صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب . فهذان النوعان : من وسواس النفس ومن وسواس الشيطان وكلاهما معفو عنه فإن النائم قد رفع القلم عنه ووسواس الشيطان يغشى القلب كطيف الخيال فينسيه ما كان معه من الإيمان حتى يعمى عن الحق فيقع في الباطل فإذا كان من المتقين [ كان ] كما قال الله : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } فإن الشيطان مسهم بطيف منه يغشى القلب وقد يكون لطيفا وقد يكون كثيفا إلا أنه غشاوة على القلب تمنعه إبصار الحق . قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء . فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فذلك [ ص: 523 ] الران الذي قال الله تعالى : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } } . لكن طيف الشيطان غير رين الذنوب هذا جزاء على الذنب والغين ألطف من ذلك كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال : { إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة } فالشيطان يلقي في النفس الشر والملك يلقي الخير وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن . قالوا : وإياك يا رسول الله قال : وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم وفي رواية فلا يأمرني إلا بخير } أي استسلم وانقاد .

                وكان ابن عيينة يرويه فأسلم بالضم ويقول : إن الشيطان لا يسلم لكن قوله في الرواية الأخرى : فلا يأمرني إلا بخير دل على أنه لم يبق يأمره بالشر وهذا إسلامه وإن كان ذلك كناية عن خضوعه وذلته لا عن إيمانه بالله كما يقهر الرجل عدوه الظاهر ويأسره وقد عرف العدو المقهور أن ذلك القاهر يعرف ما يشير به عليه من الشر . فلا يقبله بل يعاقبه على ذلك فيحتاج لانقهاره معه إلى أنه لا يشير عليه إلا بخير لذلته وعجزه لا لصلاحه ودينه ; ولهذا قال صلى الله عليه وسلم { إلا أن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير } وقال ابن مسعود : إن للملك لمة وإن للشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير [ ص: 524 ] وتصديق بالحق . ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق . وقد قال تعالى : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } أي يخوفكم أولياؤه بما يقذف في قلوبكم من الوسوسة المرعبة كشيطان الإنس الذي يخوف من العدو فيرجف ويخذل . وعكس هذا قوله تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } وقال تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } وقال تعالى : { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا } والتثبت جعل الإنسان ثابتا لأمر تابا وذلك بإلقاء ما يثبته من التصديق بالحق والوعد بالخير كما قال ابن مسعود : لمة الملك وعد بالخير وتصديق بالحق فمتى علم القلب أن ما أخبر به الرسول حق صدقه وإذا علم أن الله قد وعده بالتصديق وثق بوعد الله فثبت فهذا يثبت بالكلام كما يثبت الإنسان الإنسان في أمر قد اضطرب فيه بأن يخبره بصدقه ويخبره . بما يبين له أنه منصور فيثبت وقد يكون التثبت بالفعل بأن يمسك القلب حتى يثبت كما يمسك الإنسان الإنسان حتى يثبت . وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم { من سأل القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده } فهذا الملك يجعله سديد القول بما يلقي [ ص: 525 ] في قلبه من التصديق بالحق والوعد بالخير .

                وقد قال تعالى : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور } فدل ذلك على أن هذه الصلاة سبب لخروجهم من الظلمات إلى النور وقد ذكر إخراجه للمؤمنين من الظلمات إلى النور في غير آية . كقوله : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } وقال : { هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور } وقال : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } وفي الحديث { أن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير } وذلك أن هذا بتعليمه الخير يخرج الناس من الظلمات إلى النور والجزاء من جنس العمل ولهذا كان الرسول أحق الناس بكمال هذه الصلاة كما قال تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } . والصلاة هي الدعاء إما بخير يتضمن الدعاء وإما بصيغة الدعاء فالملائكة يدعون للمؤمنين كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه : اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث } فبين أن صلاتهم قولهم : اللهم اغفر له اللهم ارحمه . وفي الأثر { إن الرب يصلي فيقول : سبقت - أو غلبت - رحمتي غضبي } [ ص: 526 ] وهذا كلامه سبحانه هو خبر وإنشاء يتضمن أن الرحمة تسبق الغضب وتغلبه وهو سبحانه لا يدعو غيره أن يفعل كما يدعوه الملائكة وغيرهم من الخلق بل طلبه بأمره وقوله وقسمه كقوله : لأفعلن كذا . وقوله : كن فيكون ; وقوله : لأفعلن كذا قسم منه كقوله : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك } وقوله : { ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } وقوله : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا } وقوله : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } وهذا وعد مؤكد بالقسم بخلاف قوله : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } فإن هذا وعد وخبر ليس فيه قسم لكنه مؤكد باللام التي يمكن أن تكون جواب قسم وقوله : { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } وقوله : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } ونحو ذلك وعد مجرد . وقد قال تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } فأخبر أنه يوحي إلى البشر تارة وحيا منه وتارة يرسل رسولا فيوحي إلى الرسول بإذنه ما يشاء .

                [ ص: 527 ] والملائكة رسل الله . ولفظ الملك يتضمن معنى الرسالة فإن أصل الكلمة ملأك على وزن مفعل لكن لكثرة الاستعمال خففت . بأن ألقيت حركة الهمزة على الساكن قبلها وحذفت الهمزة وملاك مأخوذ من المألك والملأك بتقديم الهمزة على اللام واللام على الهمزة وهو الرسالة وكذلك الألوكة بتقديم الهمزة على اللام قال الشاعر :

                أبلغ النعمان عني مألكا أنه قد طال حبسي وانتظاري

                وهذا بتقديم الهمزة . لكن الملك هو بتقديم اللام على الهمزة وهذا أجود فإن نظيره في الاشتقاق الأكبر لاك يلوك إذا لاك الكلام واللجام والهمز أقوى من الواو ويليه في الاشتقاق الأوسط : أكل يأكل فإن الآكل يلوك مما يدخله في جوفه من الغذاء والكلام والعلم ما يدخل في الباطن ويغذي به صاحبه قال عبد الله بن مسعود : إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته وإن مأدبة الله القرآن . والآدب المضيف والمأدبة الضيافة وهو ما يجعل من الطعام للضيف . فبين أن الله ضيف عباده بالكلام الذي أنزله إليهم فهو غذاء قلوبهم وقوتها وهو أشد انتفاعا به واحتياجا إليه من الجسد بغذائه .

                وقال علي رضي الله عنه الربانيون هم الذين يغذون الناس بالحكمة [ ص: 528 ] ويربونهم عليها وقد قال صلى الله عليه وسلم { إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني } وقد أخبر الله تعالى أن القرآن شفاء لما في الصدور والناس إلى الغذاء أحوج منهم إلى الشفاء في القلوب والأبدان وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال : { مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة أمسكت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا وزرعوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ . فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به } . فأخبر أن ما بعث به للقلوب كالماء للأرض تارة تشربه فتنبت وتارة تحفظه وتارة لا هذا ولا هذا والأرض تشرب الماء وتغتذى به حتى يحصل الخير وقد أخبر الله تعالى أنه روح تحيا به القلوب فقال : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } . وإذا كان ما يوحيه إلى عباده تارة يكون بوساطة ملك وتارة بغير وساطة فهذا للمؤمنين كلهم مطلقا لا يختص به الأنبياء .

                قال [ ص: 529 ] تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } وقال تعالى : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } وإذا كان قد قال : { وأوحى ربك إلى النحل } الآية . فذكر أنه يوحي إليهم فإلى الإنسان أولى وقال تعالى : { وأوحى في كل سماء أمرها } وقد قال تعالى : { ونفس وما سواها } { فألهمها فجورها وتقواها } فهو سبحانه يلهم الفجور والتقوى للنفس والفجور يكون بواسطة الشيطان وهو إلهام وسواس والتقوى بواسطة ملك وهو إلهام وحي هذا أمر بالفجور وهذا أمر بالتقوى والأمر لا بد أن يقترن به خبر .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية