الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 122 ] فصل وأما ما يشبه ذلك من وجه دون وجه ; فهو : ما تنازعوا فيه مما أقروا عليه وساغ لهم العمل به من اجتهاد العلماء والمشايخ والأمراء والملوك كاجتهاد الصحابة في قطع اللينة وتركها : واجتهادهم في صلاة العصر لما بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة وأمرهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة فصلى قوم في الطريق في الوقت وقالوا : إنما أراد التعجل لا تفويت الصلاة . وأخرها قوم إلى أن وصلوا وصلوها بعد الوقت تمسكا بظاهر لفظ العموم فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين { وقال صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر } .

                وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها ; على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى ولما سئل عن ذلك قال : تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي [ ص: 123 ] وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم .

                وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي وتعذيب الميت ببكاء أهله ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت مع بقاء الجماعة والألفة .

                وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعا ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور أتباع السلف والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه وهل يقال له : مصيب أو مخطئ ؟ فيه نزاع . ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ولا حكم في نفس الأمر .

                ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ فهذا النوع يشبه النوع الأول من وجه دون وجه أما وجه المخالفة فلأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الإقرار على الخطأ بخلاف الواحد من العلماء والأمراء ; فإنه ليس معصوما من ذلك ولهذا يسوغ بل يجب أن نبين الحق الذي يجب اتباعه وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والأمراء وأما الأنبياء فلا يبين أحدهما ما يظهر به خطأ الآخر وأما المشابهة فلأن كلا مأمور باتباع ما بان له من الحق بالدليل الشرعي كأمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ما أوحي إليه [ ص: 124 ] وليس لأحدهما أن يوجب على الآخر طاعته كما ليس ذلك لأحد النبيين مع الآخر وقد يظهر له من الدليل ما كان خافيا عليه فيكون انتقاله بالاجتهاد عن الاجتهاد ويشبه النسخ في حق النبي ; لكن هذا رفع للاعتقاد وذاك رفع للحكم حقيقة وعلى الأتباع اتباع من ولي أمرهم من الأمراء والعلماء فيما ساغ له اتباعه وأمر فيه باتباع اجتهاده كما على الأمة اتباع أي نبي بعث إليهم وإن خالف شرعه شرع الأول لكن تنوع الشرع لهؤلاء وانتقاله لم يكن لتنوع نفس الأمر النازل على الرسول ولكن تنوع أحوالهم وهو : إدراك هذا لما بلغه من الوحي سمعا وعقلا وعجز الآخر عن إدراك ذلك البلاغ إما سمعا لعدم تمكنه من سماع ذلك النص وإما عقلا لعدم فهمه لما فهمه الأول من النص وإذا كان عاجزا سقط عنه الإثم فيما عجز عنه وقد يتبين لأحدهما عجز الآخر وخطؤه ويعذره في ذلك وقد لا يتبين له عجزه ; وقد لا يتبين لكل منهما أيهما الذي أدرك الحق وأصابه ؟ ولهذا امتنع من امتنع من تسمية مثل هذا خطأ قال : لأن التكليف مشروط بالقدرة فما عجز عنه من العلم لم يكن حكم الله في حقه فلا يقال : أخطأه .

                وأما الجمهور فيقولون : أخطأه كما دلت عليه السنة والإجماع لكن خطؤه معذور فيه وهو معنى قوله : عجز عن إدراكه وعلمه لكن [ ص: 125 ] هذا لا يمنع أن يكون ذاك هو مراد الله ومأموره ; فإن عجز الإنسان عن فهم كلام العالم لا يمنع أن يكون قد أراد بكلامه ذلك المعنى وأن يكون الذي فهمه هو المصيب الذي له الأجران .

                ولهذا تنازع أصحابنا فيمن لم يصب الحكم الباطن : هل يقال : إنه مصيب في الظاهر ; لكونه أدى الواجب المقدور عليه من اجتهاده واقتصاره ؟ أو لا يطلق عليه اسم الإصابة بحال وإن كان له أجر على اجتهاده وقصده الحق ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد وذلك لأنه لم يصب الحكم الباطن ولكن قصد الحق وهل اجتهد الاجتهاد المأمور به ؟ التحقيق : أنه اجتهد الاجتهاد المقدور عليه فهو مصيب من هذا الوجه من جهة المأمور المقدور وإن لم يكن مصيبا من جهة إدراك المطلوب وفعل المأمور المطلق .

                يوضح ذلك أن السلطان نوعان : سلطان الحجة والعلم وهو أكثر ما سمي في القرآن سلطانا حتى روي عن ابن عباس أن كل سلطان في القرآن فهو الحجة . والثاني سلطان القدرة . والعمل الصالح لا يقوم إلا بالسلطانين فإذا ضعف سلطان الحجة كان الأمر بقدره وإذا ضعف سلطان القدرة كان الأمر بحسبه والأمر مشروط بالقدرة على السلطانين فالإثم ينتفي عن الأمر بالعجز عن كل منهما . وسلطان الله في العلم هو الرسالة وهو حجة الله على خلقه كما قال تعالى : [ ص: 126 ] { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقال تعالى : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } وقال : { أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } ونظائره متعددة .

                فالمذاهب والطرائق والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام : هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله وعبادته وحده لا شريك له وهو الدين الأصلي الجامع كما يثاب الأنبياء على عبادتهم الله وحده لا شريك له ويثابون على طاعة الله ورسوله فيما تمسكوا به لا من شرعة رسوله ومنهاجه كما يثاب كل نبي على طاعة الله في شرعه ومنهاجه .

                ويتنوع شرعهم ومناهجهم مثل أن يبلغ أحدهم الأحاديث بألفاظ غير الألفاظ التي بلغت الآخر وتفسر له بعض آيات القرآن بتفسير يخالف لفظه لفظ التفسير الآخر ويتصرف في الجمع بين النصوص واستخراج الأحكام منها بنوع من الترتيب والتوفيق ليس هو النوع [ ص: 127 ] الذي سلكه غيره وكذلك في عباداته وتوجهاته وقد يتمسك هذا بآية أو حديث وهذا بحديث أو آية أخرى .

                وكذلك في العلم . من العلماء من يسلك بالاتباع طريقة ذلك العالم فتكون هي شرعهم حتى يسمعوا كلام غيره ويروا طريقته فيرجح الراجح منهما فتتنوع في حقهم الأقوال والأفعال السالفة لهم من هذا الوجه وهم مأمورون بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه كما أمرت الرسل بذلك ومأمورون بأن لا يفرقوا بين الأمة بل هي أمة واحدة كما أمرت الرسل بذلك وهؤلاء آكد ; فإن هؤلاء تجمعهم الشريعة الواحدة والكتاب الواحد .

                وأما القدر الذي تنازعوا فيه فلا يقال : إن الله أمر كلا منهم باطنا وظاهرا بالتمسك بها هو عليه كما أمر بذلك الأنبياء وإن كان هذا قول طائفة من أهل الكلام فإنما يقال : إن الله أمر كلا منهم أن يطلب الحق بقدر وسعه وإمكانه فإن أصابه وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقد قال المؤمنون : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقال الله : قد فعلت وقال تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } فمن ذمهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدى ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله وينتصر لها بغير هدى من الله فقد اعتدى واتبع هواه بغير هدى [ ص: 128 ] من الله ومن فعل ما أمر به بحسب حاله : من اجتهاد يقدر عليه أو تقليد إذا لم يقدر على الاجتهاد ; وسلك في تقليده مسلك العدل فهو مقتصد . إذ الأمر مشروط بالقدرة { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فعلى المسلم في كل موطن أن يسلم وجهه لله وهو محسن ويدوم على هذا الإسلام فإسلام وجهه إخلاصه لله وإحسان فعله الحسن . فتدبر هذا فإنه أصل جامع نافع عظيم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية