الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 367 ] قال الشيخ الإمام العالم مفتي الأنام المجتهد الفقيه الإمام : أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني . رحمه الله ورضي عنه : قول الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } .

                هذا الخطاب يقتضي : أن كل قائم إلى الصلاة فإنه مأمور بما ذكر من الغسل . والمسح . وهو الوضوء .

                وذهبت طائفة : إلى أن هذا عام مخصوص .

                [ ص: 368 ] وذهبت طائفة : إلى أنه يوجب الوضوء على كل من كان متوضئا وكلا القولين ضعيف .

                فأما الأولون : فإن منهم من قال : المراد بهذا : القائم من النوم وهذا معروف عن زيد بن أسلم ومن وافقه من أهل المدينة من أصحاب مالك وغيرهم .

                قالوا : الآية أوجبت الوضوء على النائم بهذا وعلى المتغوط بقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } وعلى لامس النساء بقوله : { أو لامستم النساء } وهذا هو الحدث المعتاد . وهو الموجب للوضوء عندهم .

                ومن هؤلاء من قال : فيها تقديم وتأخير . تقديره : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء .

                فيقال : أما تناولها للقائم من النوم المعتاد : فظاهر لفظها يتناوله . وأما كونها مختصة به بحيث لا تتناول من كان مستيقظا وقام إلى الصلاة - فهذا ضعيف . بل هي متناولة لهذا لفظا ومعنى .

                وغالب الصلوات يقوم الناس إليها من يقظة : لا من نوم : [ ص: 369 ] كالعصر والمغرب والعشاء . وكذلك الظهر في الشتاء ; لكن الفجر يقومون إليها من نوم . وكذلك الظهر في القائلة . والآية تعم هذا كله .

                لكن قد يقال : إذا أمرت الآية القائم من النوم - لأجل الريح التي خرجت منه بغير اختياره - فأمرها للقائم الذي خرج منه الريح في اليقظة أولى وأحرى . فتكون - على هذا - دلالة الآية على اليقظان بطريق تنبيه الخطاب وفحواه . وإن قيل : إن اللفظ عام يتناول هذا بطريق العموم اللفظي .

                فهذان قولان متوجهان . والآية على القولين عامة . وتعم أيضا القيام إلى النافلة بالليل والنهار والقيام إلى صلاة الجنازة كما سنبينه إن شاء الله .

                فمتى كانت عامة لهذا كله : فلا وجه لتخصيصها .

                وقالت طائفة : تقدير الكلام : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون أو قد أحدثتم . فإن المتوضئ ليس عليه وضوء . وكل هذا عن الشافعي رحمه الله . ويوجبه الشافعي في التيمم فإن ظاهر القرآن يقتضي وجوب الوضوء والتيمم على كل قائم يخالف هذا . [ ص: 370 ] فإن كان قد قال هذا : كان له قولان .

                ومن المفسرين من يجعل هذا قول عامة الفقهاء من السلف والخلف ; لاتفاقهم على الحكم . فيجعل اتفاقهم على هذا الحكم اتفاقا على الإضمار كما ذكر أبو الفرج بن الجوزي . قال : وللعلماء في المراد بالآية قولان .

                أحدهما : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا فصار الحدث مضمرا في وجوب الوضوء . وهذا قول سعد بن أبي وقاص وأبي موسى وابن عباس رضي الله عنهم والفقهاء .

                قال : والثاني أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة محدثا كان أو غير محدث .

                وهذا مروي عن عكرمة وابن سيرين .

                ونقل عنهم : أن هذا الحكم غير منسوخ . ونقل عن جماعة من العلماء : أن ذلك كان واجبا بالسنة . وهو ما روى بريدة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد . وقال : عمدا فعلته يا عمر } .

                قلت : أما الحكم - وهو أن من توضأ لصلاة صلى بذلك [ ص: 371 ] الوضوء صلاة أخرى - فهذا قول عامة السلف والخلف : والخلاف في ذلك شاذ . وقد علم بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يوجب الوضوء على من صلى ثم قام إلى صلاة أخرى فإنه قد ثبت بالتواتر { أنه صلى بالمسلمين يوم عرفة الظهر والعصر جميعا جمع بهم بين الصلاتين } وصلى خلفه ألوف مؤلفة لا يحصيهم إلا الله . ولما سلم من الظهر . صلى بهم العصر ولم يحدث وضوءا لا هو ولا أحد ولا أمر الناس بإحداث وضوء ولا نقل ذلك أحد وهذا يدل على أن التجديد لا يستحب مطلقا .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية